دروس إقليمية للثورة السورية الغِرّة

2021.03.01 | 00:01 دمشق

mastr2.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ بدأت احتجاجاتهم، قبل نحو عشر سنوات، لم يقصّر السوريون في التذرع بضعف خبرتهم السياسية، نتيجة عقود القمع، للتملّص من مواقف أظهروا فيها طيشاً أو استتباعاً أو خفة أو فردية أو تنافساً يكاد أن يكون صبيانياً بين بعض أقطاب معارضاتهم أحياناً. وفي المقابل، لم يتوانَ خبراء، أو مُدَّعو خبرة، من الدول العربية المجاورة عن التربّع على كرسي المعرفة المنصوب بسرعة، وتقديم ما يظنون أنه خلاصة تجارب مماثلة حدثت مع الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين أساساً. ولم تكن هذه الدروس، منقولة الإحداثيات على عجل هي الأخرى، مفيدة في أغلب الأحيان.

من قضية العرب «المركزية» كما يقال، «القضية» الفلسطينية التي تستأثر بال التعريف إن شاءت، قدِم كتّاب ومحللون وباحثون من الفلسطينيين السوريين، مسلّحين بتجربة تنظيمية متوسطة سابقة في منظمة ما، ومدجّجين بقدرة لا تبارى على الكلام لساعات، متبرّعين لإسداء النصائح التي يصعب اختزالها وتوحيدها، فهم غير متفقين بالأصل. لكن مجمل ما قدّمته الخبرة الفلسطينية كان يصب في سياق القنوط غالباً؛ بداية باستعادة تجارب الخروج المفروض أنه «موقت» من البلاد، والاحتفاظ بمفاتيح المنازل، والسكن في المخيمات التي أصبحت أحياء وبلدات إقامة وحيدة، مروراً باليأس من أي عدالة دولية والتعامل مع العالم السياسي بوصفه مجموعة مؤامرات كبرى معقدة ومتراكبة تستخدم على الدوام أذرعاً محلية مشبوهة بالخيانة، فكل حركة تنسّق مع سفارة، وأي فرد قد يُتهم ببساطة بأنه «قابض» من جهاز مخابرات أو «فاتح» على وزارة خارجية. الاختراقات تملأ الأجواء بصورة عنكبوتية وغرائبية. القادة فاسدون. الاتفاقيات سرية. لا مجال للثقة بتنظيم أو بزعيم، فالكل قد «يبيع القضية» في أي لحظة مفاجئة. والسياسة مجرد سلسلة من «التكويعات» المرتبطة. ولا شيء يمكن للسوريين أن يفعلوه، والحال هذه، سوى أن يستجيبوا لنداء الفلسطيني «العتيق» القائل «صفّ جنبي» بانتظار المستقبل المجهول.

بخلاف الفلسطينيين واللبنانيين، الداخلين في نفقين لا تبدو لهما نهاية واضحة، يعرف العراقيون بداية نفقهم على الأقل، وهو لحظة الخلاص من الدكتاتورية والسقوط في الفوضى

الخبرة اللبنانية أكثر تلويناً وغنى وأقل وطأة، وإن أتت بنتائج مشابهة. ما يمكن أن يحصّله السوريون في نهاية «الحرب الأهلية» هو بلد مهلهل بديمقراطية توافقية ذات طابع طائفي، وبرامج talk show تميّع القضايا وتزلّق الزوايا ويجري فيها إطلاق الاتهامات من دون أمل في الوصول يوماً إلى «الحقيقة». فالزعماء، المتولدون من بنية «أمراء الحرب»، مراوغون وكاذبون، يشكّلون «طبقة سياسية» متناغمة رغم اختلافها. بإمكانك أن تصرخ «كلّن يعني كلّن» لكن هذا لن يكون أكثر من سَورة غضب محدودة في الشارع، في حين تمضي السياسة والحكم والاغتيالات في سياقها المحتوم. الحل الأمثل هو الهجرة أو أن تشتم «البلد» فيما تستخدم مزيجاً من شطارتك الفردية ومكاتب الحوالات لتدبر سبل العيش من دون أن تفكّر في أفق أبعد من اليوميّ.

وإذا كانت هاتان التجربتان لا تطرحان حلولاً من أي نوع، فإن شقيقتهما العراقية، المؤسّسة على الغزو الأميركي عام 2003، لديها الجواب المسموم، صدام حسين!

فبخلاف الفلسطينيين واللبنانيين، الداخلين في نفقين لا تبدو لهما نهاية واضحة، يعرف العراقيون بداية نفقهم على الأقل، وهو لحظة الخلاص من الدكتاتورية والسقوط في الفوضى! ومن اللافت أن الحنين إلى الزمن الصدّامي «المستقر» لم يعد مقتصراً على قاعدته النمطية بين السنّة، بل تعداها إلى شرائح ملحوظة من أعدائه التقليديين من الشيعة أو الأكراد. فبعد خمسة عشر عاماً على إعدامه باتت عيوبه الجسيمة أقل حضوراً في الذهن من الواقع الحالي الذي تمتزج فيه الأيادي الخارجية بالفساد والتناحر والاضطراب العام على صُعد مختلفة. الدرس الذي تقدّمه التجربة العراقية للسوريين هو أن مستبداً محترفاً في القصر خيرٌ من عشرة هواة على الدبابة، المفترض أنها أميركية أو غربية كما تقتضي صورة التدخل الدولي المنشود أو المرذول.

وإلى هذا وذا وذاك تضاف تجارب رادفة أخرى من المحيط. مصر، صاحبة ميدان التحرير، التي وقعت في يد حاكم كاريكاتيري. ليبيا التي تخوض حرباً طاحنة وتستورد المرتزقة على الضفتين. اليمن التي صارت مسرحاً لمكاسرة إيران والسعودية بناء على انقساماتها الداخلية. أنظمة الحكم الضعيفة والقلقة في بلدان وصلت إليها جرعة مخففة من الربيع العربي في آخر أيام صلاحيته، كالجزائر والسودان.

يحتل هذا المشهد المترامي مكانه من أذهان سوريّي الثورة. ويتضافر مع تعقيد قضيتهم واستعصائها الحالي، ليلهيهم عن القليل الذي يمكن أن يفعلوه تجاهها، وأسّه أن يكونوا قد راكموا خبراتهم المستقلة عن بلدهم وخصوصياته بالدرجة الأولى، والحدود الفعلية لتقاطع تجربته أو تشابهها مع غيرها، وتلمّس سبل بنائه بمسؤولية. فالاتكاء على حجة التصحر السياسي الذي فرضه النظام لم يعد مقبولاً بعد عقد من العذاب.