درب الآلام إلى أين؟

2022.08.31 | 07:13 دمشق

thwrt_alswryyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

في كتابه (سورية: درب الآلام نحو الحرية) الذي كان "محاولة في فهم الثورة السورية قبل أن تكتمل"، يستعرض عزمي بشارة تحت عنوان التفاعلات الجيوستراتيجية والمواقف الدولية، مواقف الدول الفاعلة في المشهد السوري، منها الموقف الأمريكي الذي يعتبره "الأكثر تردداً في دعم الثورة السورية بين الدول الغربية، والأقل رغبة في التورط فيها"، بينما اتخذت روسيا "منذ بداية الثورة موقفاً مثابراً في دعم النظام" وهذا ما أثبتته الوقائع بشكل فعلي ومباشر من خلال التدخل العسكري الروسي في عام 2015 والذي ساهم بشكل حقيقي باستمرار النظام السوري على سدة الحكم وبنفس الوقت ساهم في تقوية الموقف الروسي نفسه على الساحة العالمية متساوقة مع رغبة بوتين في استعادة روسيا لدورها العالمي، وخاصة "مع فشل سياسة التدخل الأمريكية في المنطقة العربية، وبوجود مستفيد من هذا الفشل جاهز للتعاون مع روسيا من منطلق حاجته إليها وهو إيران". ويشير بشارة إلى أن "الموقف الروسي في سورية ما هو إلا محاولة لتأكيد النفس الإمبراطوري عند بوتين وفريقه ومحاولة استعادة أمجاده من خلال دور روسي فاعل على المستوى الجيوسياسي العالمي وتجاوز "العقدة النفسية" الروسية التي سببها تفكك الاتحاد السوفييتي وخسارتها في أفغانستان"، وهذا ما تؤكده اليوم الحرب الروسية على أوكرانيا.

ربما أصبح الكلام عن الدور الأمريكي والروسي بعد مرور أكثر من أحد عشر عاماً على الثورة السورية واضحاً، لكن تجلياته والتفاصيل اليومية وما يرافقها من سياسات على الساحة الدولية والإقليمية جاءت إلى حد بعيد متناغمة مع استشراف عزمي بشارة وتحليله لجوهر السياسة الأمريكية والروسية والإيرانية والتركية مع "ثورة في دولة ذات أهمية جيو-استراتيجية قصوى"، وثورة "كلما طال أمدها ازداد تأثير العوامل الإقليمية والدولية، ولا سيما أن النظام اعتمد عليها اعتماداً شبه كامل". ولم تكن العودة للكتاب لإثبات ذلك فالواقع ومجريات الأحداث أثبت جزءاً كبيراً منه، ولكن سبب هذه العودة لكتاب "سورية: درب الآلام نحو الحرية " هو ما يحدث اليوم من هرج ومرج حول طرح موضوع المصالحة أو التوافق بين المعارضة السورية والنظام الذي بدأت تتحدث عنه الأوساط الرسمية التركية، حيث يبين بشارة ومنذ ذلك التاريخ، أي عام 2013 ، وهي سنة نشر هذا الكتاب طبيعة السياسة التركية وجوهر تعاطيها مع الأحداث الإقليمية والدولية وفي مركزها كيفية التعامل مع القضية السورية، حيث احتل الدور التركي من وجهة نظر بشارة مكانة متقدمة بين اللاعبين الدوليين في التأثير بالثورة السورية.

يعتبر بشارة أن كتاب العمق الاستراتيجي: موقع تركيا الجغرافي الذي كتبه أحمد داود أوغلو في عام 1999 تلخيصاً لاستراتيجية تركيا باعتبارها دولة وطنية إقليمية. حيث " ينطلق الكتاب من أن أولويات الاستراتيجية لتركيا ينبغي ألا تنحصر في دائرة جغرافية واحدة لأن ذلك يجعل تركيا (طرفاً) تابعاً أو متأثراً بالتغيرات التي تحدث بالمركز. وأن سياسة تركيا الخارجية يجب أن تقوم على " تعدد / تنوع المحاور"

وليست آلية تنفيذ تلك الرؤية إلا جزءاً لا يتجزأ من جوهر السياسة التركية في المحيط الإقليمي والدولي التي " تقوم على مرتكز رئيس هو " تصفير المشكلات "مع المحيط، أي دفع السياسة الخارجية التركيز إلى الانسحاب من الخصومات المختلفة التي كانت طرفاً فيها". ويلاحظ بشارة تطبيق هذه السياسة فعلاً على الأرض " إذ حافظت تركيا على علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً في ما يتعلق بالبعد الأمني وعضويتها في حلف شمال الأطلسي، والتبادل التجاري بين تركيا والاتحاد الأوروبي بشكل كبير، وفي آسيا الوسطى تجاوزت تركيا عقدة "الشقيق الأكبر" في علاقتها بالجمهوريات المستقلة.… كما حاولت تجاوز العقدة التاريخية في علاقتها باليونان وأرمينيا". وإذا كانت هذه الملاحظات على السياسة التركية قبل عشر سنوات فإن ما قامت به تركيا في هذه الفترة يؤكد هذه السياسة وهذه الآلية وذلك من خلال إعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية بالرغم كل ما حصل بعد قضية خاشقجي، ومع الإمارات رغم كل التصريحات النارية من الطرفين، والآن مع إسرائيل رغم وصول الخلاف إلى حد التصادم، والبقاء بنفس الوقت بعلاقة متضامنة مع الفلسطينيين، كل هذا ما هو إلا دليل آخر على هوية السياسة التركية التي وقفت أيضاً بشبه حياد من الحرب الروسية في أوكرانيا رغم أنها نددت بتلك الحرب واعتبرتها اعتداء على أرض دولة ذات سيادة، لكنها حافظت على علاقاتها مع كل الأطراف، رغم الانقسام العنيف والحاد الحاصل في العالم على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا وما أحدثه من تغيرات في الساحة الجيوسياسية العالمية.

ولا يمكن التطرق للسياسة التركية الخارجية بدون الأخذ بعين الاعتبار حساسية الوضع الكردي بالنسبة للأمن القومي التركي، لذلك يمكن القول أيضاً إن المسألة الكردية تأخذ حيزاً كبيراً في تحديد مستوى وشكل السياسة التركية مع دول الجوار العربي وهو ما يشير إليه بشارة حيث يقول "فالمسألة الكردية كانت أساس التعاون بين نظام صدام حسين وتركيا في مرحلة حصار النظام العراقي وفرض منطقة حظر طيران عليه" وكانت المسألة الكردية بنفس الوقت "أساس الخلاف مع سورية في مرحلة حافظ الأسد ووصوله إلى حافة الحرب في عام 1998 " وبنفس الوقت أيضاً كان الاتفاق حول المسألة الكردية أساس تطبيع العلاقات مع سورية من خلال اتفاقية أضنة عام 1998 والتي تضمنت حظر نشاط حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبدالله أوجلان من العمل داخل الأراضي السورية . واستتباعاً لذلك يمكن القول اليوم إن الحالة الكردية وشكل تموضعها على الساحة السورية مازال وسيبقى له الأثر الكبير في صياغة علاقات تركيا مع الوضع السوري خصوصاً لتشابك وتضارب مصالح اللاعبين الدوليين فوق الأرض السورية، لذلك سيكون للوضع الكردي وكيفية رؤية الحكومة التركية لحله أثر كبير في السياسة التركية باتجاه النظام السوري وسيكون له أثر كبير فيما طُرح ويُطرح أخيراً حول موضوع المصالحة التي لايمكن التطرق لها بدون الأخذ بعين الاعتبار المعارضة السورية التي تبنتها الحكومة التركية بعدما "ساهم التموضع الجيوستراتيجي للفاعلين الدوليين والإقليميين الذي برز في مراحل متقدمة من عمر الثورة، في عدم إيلاء النظام السوري أهمية كبيرة للتغير في موقف تركيا اتجاهه" وخاصة "أن موقف مؤسسة الجيش (التركي) ورفضها حتى التهديد بالتدخل العسكري كانا من العوامل التي ساهمت في تحديد الدور التركي الحقيقي وجعلته مختلفاً عن التصريحات التي أطلقها القادة السياسيون لحزب العدالة والتنمية "مما خلق تحدياً جيوستراتيجيا لتركيا دفع باتجاه خروجها من معادلة التأثير في سوريا وهو الوضع الذي لم تستسلم له تركيا فعمدت إلى تفعيل الأوراق التي تستطيع التأثير فيها كقضية اللاجئين التي تستدعي بعداً إنسانياً وتعاطفاً على المستوى العالمي، ودعمت المعارضة السورية لكي تخلق كيانا سياسيا معترفا به مقابل النظام ويكون ورقة ضاغطة تستثمرها في أي مفاوضات مع اللاعبين الإقليميين والدوليين أولاً ومع النظام كتحصيل حاصل. وإذا استمرت تركيا بتطبيق سياسة " تصفير المشكلات " مع المحيط التي أشار إليها بشارة والتي قطعت تركيا من خلال تطبيقها سلسلة تسويات ومصالحات كان يعتبرها البعض مستحيلة ومحض خيال، فيمكن القول إنه لا العواطف أو الأمنيات أو حتى المعارضة الارتجالية  ستوقف ما يفكر به الجانب التركي لترسيخ مصالحه ورؤيته للسياسة الخارجية التي تضمن تلك المصالح.