داخل سوريا قصة الحرب الأهلية وما على العالم أن يتوقع

2020.09.16 | 00:05 دمشق

ghlaf-ktab-dakhl-swryt.jpg
+A
حجم الخط
-A

بسبب وجوده على الأرض السورية خلال سنوات الثورة الأولى، حاول الصحفي الأميركي ريز إرليخ تقديم قراءة وصفية لبعض الأحداث، سواء مما رآه أو من خلال مقابلات أجراها بشكل مباشر مع شخصيات في المعارضة وأخرى في النظام.

لا يكتفي إرليخ ـ مؤلف كتاب "داخل سوريا: قصة الحرب الأهلية وما على العالم أن يتوقع" الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون عام 2015 ـ بالمنهج الوصفي والتحليلي، بقدر ما يقدم قراءة تاريخية للواقع السوري.

ما يلفت الانتباه إلى أن المؤلف افتقر في بعض اللحظات إلى الموضوعية، حيث فضل الحياد السلبي، حينما قال إن وسائل الثورة انتقلت تدريجيا من المظاهرات إلى الهجمات المسلحة، وإن الثورة السورية افتقدت لقيادة سياسية وعسكرية بخلاف الحركات الثورية في أميركا اللاتينية أو أفريقيا.

لم يوضح إرليخ أسباب الانتقال من المستوى المدني ـ السياسي في الفعل الاحتجاجي إلى المستوى العسكري، وأسباب تسليح القوى الخارجية للثوار، وأسباب افتقار الثورة السورية لقيادات كما حدث في أميركا اللاتينية، متجاهلا خصوصية الأنظمة الحاكمة وخصوصية المجتمعات وخصوصية الجغرافيا وخصوصية المرحلة.

لكنه كأميركي، أدرك منذ البداية أن ثمة هوة كبيرة بين مخططات الثوار والمخططات الأميركية، فالجدل الجاري في واشنطن آنذاك، كان مقتصرا على وجهتي نظر: الأولى يترأسها الحمائم ممن يفضلون عقوبات اقتصادية مع تسليح الثوار المعتدلين، والثانية يترأسها الصقور ممن يفضلون إرسال المزيد من الأسلحة للثوار مع قيام الجيش الأميركي بقصف جوي، وقد انتصرت وجهة النظر الأولى.

لورنس السوريين

يستقي معظم الأميركيين معرفتهم عن الشرق الأوسط في أوائل القرن العشرين من فيلم "لورنس العرب" الذي أنتج عام 1962 وقام بدور البطولة بيتر أوتول عن شخصية الكولونيل توماس إدوارد لورنس.

ما جذب إرليخ إلى فيلم "لورنس العرب" كان تصويره السينمائي الصحراوي الأخاذ، والمعارك المثيرة فيه، ودعم لورنس للقضية العربية، لكنه لم يفهم والكلام للمؤلف حتى وقت لاحق أن مشهدا أساسيا في الفيلم قد شوه التاريخ، فقبيل نهاية الفيلم، دخلت الجيوش العربية دمشق وأنشأت مجلسا للحكم في مبنى بلدية المدينة، وقد بنى صانعو الفيلم هذا المشهد على وصف لورنس لهذا الحدث في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة"، ولكنهم خالفوا رواية لورنس الحقيقية في الفيلم، إذ صوروا القادة العرب وهم يتخاصمون فيما بينهم، من دون أن يبدوا أي فهم فيما يتعلق بقضايا توليد الطاقة الكهربائية ومحطات المياه والتقنيات الحديثة الأخرى.

وفي نهاية المطاف غادر البدو مفسحين المجال للبريطانيين ليمسكوا بزمام السلطة، بينما أصيب بيتر أوتول بالذهول أمام عجز العرب عن حكم أنفسهم.

وما حدث في الواقع هو أن الجيش البريطاني بقيادة الجنرال ألنبي حاول أن يفرض سيطرته، ولكن المؤتمر السوري رفض ذلك وانتخب الملك فيصل حاكما للملكة العربية، وقد حكم المؤتمر السوري دمشق قرابة العامين، إلى أن سلم البريطانيون سوريا إلى فرنسا منفذين بذلك بنود اتفاقية سايكس ـ بيكو.

نعم، كانت هناك صراعات داخلية بين العرب، واندلعت بينهم حرب قصيرة، لكنهم تمكنوا من إعادة توليد الكهرباء وتوفير المياه النظيفة والخدمات الحيوية الأخرى، بمساعدة موظفين من الإمبراطورية العثمانية.

 

ثورات واستقلال

في 21 أكتوبر 1919 نزل الجنرال الفرنسي هنري غورو في بيروت على رأس جيش المشرق الفرنسي، في وقت كانت حكومة فيصل تسيطر على سوريا ولبنان.

وفي 25 يوليو 1920 دخل غورو دمشق بعد معركة خسرت فيها قوات فيصل بسبب ضعف إمكانياتها العسكرية مقارنة بإمكانيات الجيش الفرنسي، لكن المؤلف يضيف سببا آخر للهزيمة، هو ضعف القومية العربية آنذاك، إذ كان لدى كثير من العرب شعور بالولاء إلى قبائلهم وجماعاتهم العرقية.

كتب روبير دو كيه سكرتير الجنرال غورو أن فرنسا كانت أمام خيارين: إما أن تبنى دولة سورية غير موجودة بعد، أو تشجيع كل المظاهر المؤيدة للانقسام والإبقاء عليها، والخيار الثاني كان المعتمد.

أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، نشأت مجموعة جديدة من الوطنيين السوريين، لم تنتمِ إلى القبائل الغنية التقليدية مثل الملك فيصل وإخوانه، بل نشأت في الطبقة البرجوازية الصغيرة، وكان منهم سلطان باشا الأطرش.

بدأت ثورة عام 1925 في القرى الدرزية، سرعان ما اتسعت لتشمل كل البلاد، ويجري المؤلف مقارنة بين هذه الثورة وثورات الربيع العربي عام 2011، ففي الحالتين نهض الشباب ضد الأنظمة السياسية، وفي كلتا الثورتين انضمت النخبة الاقتصادية إلى جانب السلطات الحاكمة، وفي الحالتين أيضا لجأت الحكومة إلى محاولة تقسيم الثوار من جهة، بينما كانت من جهة ثانية تقمع ثورتهم بوحشية.

كانت النزعة القومية التي تحرك الثوار بحسب إرليخ براغماتية، حيث افتقدت لأيديولوجية متماسكة، فقد كان هم الثوار الأساسي هو طرد الفرنسيين، وقد مزجوا هذه الأيديولوجية مع نظرة دينية شعبية، وهيجان معاد للمسيحيين بسبب وقوف غالبيتهم مع الفرنسيين، وحرب الطبقات الأدنى مع الإقطاعيين من أهل المدينة وأعيان الريف.

ومن الأمور التي انتبه إليها الكاتب أن المدن التي ساندت ثوار عام 1925 بقوة هي نفسها التي ساندت ثوار عام 2011، فقد كانت منطقة الميدان ـ إحدى ضواحي دمشق الجنوبية ـ معقل لكلتا الثورتين، وكانت حماة المدينة التي دعمت ثوار 1925 وثوار 2011.

 

ثورة 2011

يروي أرليخ وصوله إلى درعا في أكتوبر 2011 مع وفد صحفي عالمي تحت رعاية النظام، وسرعان ما تفاجئ برواية النظام التي قدمها محافظ درعا عند مقابلته الوفد الصحفي، والتي تقول إن بعض

مسار الثورة كشف ضعف تأثير جماعة الإخوان المسلمين، بسبب تعرض قادتها إما للسجن أو للنفي خلال العقود الثلاثة الماضية، الأمر الذي أفقد الجماعة تواصلها مع الأجيال الشابة الحاملة للثورة

الشباب تظاهروا من أجل المطالبة بالديمقراطية، لكن متطرفين إسلاميين مدعومين من دول في الخليج العربي وإسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، فضلا عن مرتزقة مدربين من قبل المخابرات الإسرائيلية والأميركية، قاموا بقتل 1200 رجل أمن.

بدت هذه الرواية للوفد الصحفي رواية كاذبة منذ البداية، فهناك فرق يقول أرليخ بين من حمل سلاحه الشخصي للدفاع عن نفسه وبين مزاعم حكومة الأسد بوجود مرتزقة ترعاهم مخابرات خارجية.
عاين أرليخ في تلك المرحلة انتقال الثورة من جانبها السلمي إلى جانبه المسلح نتيجة أساليب النظام الإجرامية، لكن ما لفت انتباهه هو تغير قيادات الثورة مع هذا الانتقال، فقد جاء الإسلام السياسي إلى الواجهة.

لكن مسار الثورة كشف ضعف تأثير جماعة الإخوان المسلمين، بسبب تعرض قادتها إما للسجن أو للنفي خلال العقود الثلاثة الماضية، الأمر الذي أفقد الجماعة تواصلها مع الأجيال الشابة الحاملة للثورة.

 

من يؤيد الأسد

تنبه أرليخ أثناء إقامته في سوريا إلى زيف إدعاء النظام بأنه حامي العلمانية، فما قام به النظام في الحقيقة هو محاولة زرع إسفين بين السنة وباقي الأقليات.

في لقاءاته مع شخصيات علوية في طرطوس عام 2013 سمع أرليخ نبرة واحدة تقول إن الأسد يمتلك دعما شعبيا، وأن "المتمردين" السنة هم أدوات وعملاء لمخابرات خارجية، وكان المؤلف يطرح عليهم سؤالا واحدا لا يجيبون عليه، وهو إذا كان الأسد يحظى بهذا الدعم الشعبي، بينما الثوار ليسوا إلا مجرد أدوات لقوى أجنبية، فلماذا خسرت الحكومة السيطرة على هذه الأجزاء الكبيرة من البلاد؟

اتضح للمؤلف أن ثمة سردية واحدة يعتمدها العلويون حيال موقفهم من نظام الأسد، وهي سردية لا ترى الكوارث التي ألحقها نظام الأسد بسوريا.

على سبيل المثال، يقول إرليخ إن حكومة الأسد اتبعت توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بخصخصة بعض الصناعات، لكن هذه الخصخصة كانت لصالح أقارب الأسد والمحسوبين على النظام ممن اشتروا المصانع بأسعار زهيدة.

ألحقت السياسة الاقتصادية هذه أضرارا بالغة بالاقتصاد السوري على مستوى الصناعات النسيجية والزراعية، لا سيما في الريف.

على غرار العلويين تتبع المؤلف مواقف المسيحيين، فوجدها قريبة جدا من مواقف العلويين، لا من حيث اتهامهم بالعمالة للخارج، وإنما من حيث التهديد الإسلامي الذي جاءت به المعارضة، لكن المسيحيين تبنوا في نهاية المطاف سردية النظام والعلويين من أن المعارضة تهدف إلى قتل أو احتواء الأقليات، خصوصا المسيحيين.

 

هل سينال الأكراد مرادهم؟

في عام 2003 تشكل حزب "الاتحاد الديمقراطي" برئاسة صالح مسلم، لكن الحزب سرعان ما تعرض للانتقاد من الأوساط الكردية بسبب وضعه مصالحه الخاصة فوق مصالح الأكراد العامة.

وزاد الكره للحزب في الأوساط الكردية مع قيامه بمهاجمة المظاهرات الكردية واختطاف قيادات مناهضة للنظام.

ومع انطلاق الثورة، خشي النظام أن ينخرط الشباب الكردي المستاء في الثورة، فعمد الأسد إلى إصدار مرسوم بتجنيس ثلاثمة ألف كردي، وقد أعطت هذه الخطوة للنظام مساحة من الوقت لتحييد الأكراد ولتركيز هجومه على المدن والبلدات العربية السنية مثل حمص وحماة.

في هذه الأثناء برز مشعل تمو كقيادي كردي مناهض للنظام، وسرعان ما حشد تأييد عدد كبير من الشباب، الأمر الذي خشي منه النظام فعمد إلى اغتياله في 7 أكتوبر عام 2011.

إثر اغتيال تمو اندلعت موجة احتجاج واسعة في الأوساط الكردية، وبدأت عمليات تسلح انخرطت فيها أحزاب عدة على رأسها "الاتحاد الديمقراطي" بزعامة صالح مسلم، ثم اندلعت اشتباكات بين القوى الكردية الناشئة وقوات النظام ثم بين القوات الكردية و"الجيش الحر".

وفي محاولة لتحييد الأكراد عن الصراع وتوجيه بوصلة معاركهم ضد المعارضة، سحب النظام قواته العسكرية من المدن الكردية في تموز 2012، مبقيا على محمية عسكرية واحدة في مدينة القامشلي.

تقدم حزب "الاتحاد الديمقراطي" ليملأ الفراغ وأرسل مقاتليه إلى أربع مدن على الحدود مع تركيا وإلى البلدات الكردية في ريف حلب.

ومنذ ذلك الحين، بدأت "الاتحاد الديمقراطي" بدعم من حزب "العمال الكردستاني" بتثبيت النفوذ الكردي بعيدا عن النظام والمعارضة، وقد كتب مصطفى كاراسو في الموقع الرسمي لـ "العمال الكردستاني": لقد فرض الأكراد أنفسهم كطرف ثالث في سوريا، فلم يصطفوا مع النظام ولا مع المعارضة.

ومع أن حزب "الاتحاد الديمقراطي" كان متهما من قبل أوساط الشباب الكردي بتسلطيته وفئويته، إلا أن سيرورة الصراع جعلت من الحزب القوة الكردية الرئيسية في الشارع الكردي.

ومع اتجاه "الاتحاد الديمقراطي" إلى تثبيت سيطرته على المناطق الحدودية مع تركيا، أعلنت الأخيرة على لسان وزير خارجيتها أن أنقرة لن تقف في وجه حصول الأكراد السوريين على "الإدارة الذاتية" شرط أن لا يتم تنفيذ ذلك بالعنف، وفي تموز 2013 دعت تركيا صالح مسلم لزياة أنقرة للقاء مسؤولين سياسيين واستخباراتيين.

لكن، في 21 يناير من عام 2014 أعلن الأكراد عن قيام "الإدارة الذاتية" في ثلاث محافظات سورية، ووقع خمسون حزبا على هذا الإعلان.

مقابل ذلك، اعترضت قوى كردية على مشروع "الإدارة الذاتية" مثل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الجبهة الإسلامية الكردية و"كتيبة صقور البشمركة"، و "كتيبة شهداء مكة".

رفضت الولايات المتحدة إعلان "الإدارة الذاتية" ونصحت الأكراد بالتراجع، لكن القوى الكردية مضت في تحقيق مشروعها، ومع التهديد الذي أحدثه "تنظيم الدولة"، أعادت واشنطن تقييم تحالفاتها، فوجدت في الأكراد القوة المحلية القادرة على مواجهة التنظيم، فبدأ مرحلة التحالف المشترك بين الجانبين.