خطأ الصوابية

2021.03.17 | 05:55 دمشق

1-24.jpg
+A
حجم الخط
-A

يعيش العالم فترة لا تشبه مثيلاتها وينتقل بمخاض عسير إلى عصر لا يشبه ما سبقه، الأمر الذي قد يترك علينا آثاراً عميقة ويجعلنا نقف مذهولين قبل أن نفكر في التأقلم الأمر الذي قد نعجز عنه في أحيان كثيرة.

دورة الانتقال السريعة من عصر إلى آخر تجعل الأغلبية العظمى منا في حيرة من أمرها، وفي اضطراب مما قد يحل بنا فيما إذا كنا أقل قوة من مجاراة القيم الجديدة وعجزنا عن التأقلم.

لا يمكن أن يكون المشهد الثقافي بمنأىً عن هذه المتغيرات الكبيرة فالتغيير يصيب الفنون والآداب مثلما يفعل مع ميادين الحياة المختلفة، فتصبح الحركة الثقافية محل نقاش وينقسم المجتمع المشتغل في الأدب بين رافض ومشجع.

يشهد المشهد الثقافي برامج مختلفة ومسابقات متعددة قد تكون عاملاً في إحداث تلك التغييرات أو في إظهارها بما تتلقاه تلك الفعاليات من تغطية إعلامية، غير أنه من غير المحبذ قياس الأدب بالألقاب التي حصل عليها الشاعر أو الكاتب، واعتبار تلك الألقاب بمثابة حصانة تحيطه بهالة لتحصنه من النقد.

غير أن ما يحدث قد يتجاوز النقد ليصل به إلى التلذذ بالانتقاد وينتقل إلى مرحلة متقدمة من الوصاية الأبوية على أسلوب شغل المنتج الأدبي والفني أو طريقة تقديمه، ويحاول في بعض الأحيان تأطيرها وسجنها ضمن قالب معين ورجم ما يخرج عن ذلك الإطار بالحجارة وتشويه صورته الأدبية، أو اعتباره جنساً مارقاً عن الأجناس الأدبية المتعارف عليها منذ قديم الزمن، الأمر الذي يمكن أن يشكل نوعاً من الاستبداد الأدبي فالذائقة البشرية متبدلة ولا توجد قوانين ومقاييس جامعة مانعة تبين جودة هذا العمل من عدمها أو ضمان تفوقه على غيره.

ليس الإبداع أن يسير الكاتب على خطاً وقواعد حرفية إذ إن في ذلك ما ينفي مبدأ الإبداع والاختلاف

لقد اختلفت أدوات الكتابة ومفرداتها تبعاً للانتقال من بيئة إلى أخرى ومن حقبة إلى أخرى مختلفة عنها، وبذلك تبدلت معايير الأدب وقيمه الجمالية ولم يشكل هذا التبدل قاعدة أبدية كما أنه لم يؤثر على النتاج بشكل سلبي في مواضع مختلفة.

ليس الإبداع أن يسير الكاتب على خطاً وقواعد حرفية، إذ إن في ذلك ما ينفي مبدأ الإبداع والاختلاف، فالنجاح والإبداع غير مقترنين بالضرورة، ذلك أن النجاح قد يحدده تجاوز الامتحانات المقررة أما عوامل الإبداع فتبقى غير خاضعة للقوانين ويجب أن تنمو في بيئة حرة غير خاضعة للسيطرة وإلا فسوف تكون عرضة للاختناق.

إن فكرة الاحتكار في العمل الفني أو الأدبي واستصغار الكتاب الجدد واستنكار محاولتهم التفرّد، تحاكي إلى حد كبير احتكار السلطة السياسية ومحاولة رفض كل ما هو جديد وتنحية المجددين وتشي بحالة طبقية ثقافية موغلة وهذا ما نسعى جميعاً للعمل على تغييره.

يمر الإنسان عبر مراحل حياته بكثير من التجارب في العمل ويكتشف في نفسه مواهب كثيرة، وقد يتردد كثيراً قبل أن يحدد طريقه ونقاط قوته ويختار الاستمرار في طريق محدد.

إن أغلب الرافضين لصعود أصوات جديدة بحجة تشويه المشهد الثقافي انسحبوا من المشهد بحجة عدم وجودهم فيه، واعتبروا أن العامل الوحيد المحدد لنجاح الكاتب أو الفنان هو وجود موهبة فذّة رغم أن الموهبة وحدها قد لا تكفي في حال لم تقترن بجهد مكثف والعكس صحيح. 

من وجهة نظر خاصة فإن العالم يحتمل أن يمتلئ بكثير من التجارب ومن حق كل إنسان العمل على تجربته فينجح ويستمر أو يتراجع، ليست تلك هي المسألة، فمتذوقو الفنون والآداب قادرون على غربلة النتاج الثقافي بشكل متجدد والذائقة العامة هي صاحبة الحق في تقرير الجميل والقابل للاستمرار من عدمه.

غير أن ما يمكن قراءته في المشهد العام سيطرة حالة متفوقة لدى فئة معينة من الكتاب أو الفنانين، تتعمد تلقف أخطاء الآخرين واصطيادها واستصغارهم ومحاولة إخراجهم من الساحة الثقافية. 

من حق أي أحد أن يعبر عن نفسه بالطريقة التي يختارها أما تبرير رفض الأصوات الجديدة بحجة أن ازدياد عدد المشتغلين في الكتابة والفن والثقافة سيؤدي إلى حالة من التشوه الثقافي، فهذا لا ينم سوى عن إجحاف وفوقية واعتراف ضمني بتفوق فئة على فئة أخرى، وعدم احترام للذائقة العامة، فالأولى أن نترك الحكم للمتلقي الذي من المفترض أننا نثق بذائقته.

لا تخضع الآداب والفنون إلى معايير رياضية أو كيميائية، إنها ومع الاحتفاظ بالهيكل العام تبقى مرهونة بشكل جوهري للذائقة المتغيرة والمتبدلة بفعل ظروف مختلفة

ومن غير المعيب أن نتقبل المنافسة العادلة وتفوق آخرين، فالتاريخ قادر على الاصطفاء والغربلة وتحديد مقومات البقاء من عدمها وصقل الذائقة الجمالية. 

لا تخضع الآداب والفنون إلى معايير رياضية أو كيميائية، إنها ومع الاحتفاظ بالهيكل العام تبقى مرهونة بشكل جوهري للذائقة المتغيرة والمتبدلة بفعل ظروف مختلفة، ولهذا فإن عامل الوصاية في تقييم النتاج الفني والأدبي يكون مجحفاً وغير منصف في كثير من الأحيان. 

لطالما عرفت الفنون والآداب مذهب التجديد، وليس من حق أحد إطلاق النار على المجددين أو من ينحرفون عن المسار العام من أجل رسم مساراتهم الخاصة 

من هذا المنطلق فإن ما يسمى الصوابية الأدبية لا يعدو كونه مبدأ هشّاً ومرفوضاً، فالخطأ والصواب أمران نسبيان أولاً ولا تخضع الفنون والآداب إلى قاعدة ثابتة علينا اتباعها كي نحصل ناتجاً صحيحاً.

لا إبداع حيث لا حرية، ولذلك من غير المنطقي أن يكون الإبداع سجناً لا يمكننا التحرر من قواعده الصارمة، فالحقيقة الوحيدة الثابتة في العالم أنه متغير ولا يمكن تخيل توقف عجلاته عن الدوران، فالوسيلة الأفضل هي محاولة التأقلم مع المستجدات وتقديم الأفضل بهدف ترك أثر ونتاج أدبي أو فني يحتوي على معايير الجودة والجمالية في آن واحد.

كلمات مفتاحية