خط الزمن السوري

2020.02.26 | 23:00 دمشق

nsa-thayrat.jpg
+A
حجم الخط
-A

صور بعض المعارف والأصدقاء تفاجئني عندما أشاهد تحديثاتها، كم تغيرت ملامحهم، وباتوا مختلفين عن الذين عرفتهم في بدايات الثورة، الشيب الذي يغزو الرؤوس دون أن يستأذن، ملامحهم المليئة بالتعب والهموم، وعيونهم التي تحكي أموراً لم يعد أحد يرغب بقولها، لأنه لم يعد هنالك جدوى من الحديث المعلن، الكل يعرف سرد الحكاية من البداية إلى اللحظة الحالية، غير أن ما يدور داخل كلّ منا يُحدث ثورة داخلية، تأبى إلا أن تظهر في الملامح شاء أو أبى، والثورة جعلتنا جميعاً نهرم، وإن كانت دماء الشباب تتجدد في عروقنا كلما لمحنا أملاً، أو كلما صنعناه أو أرغمناه على القدوم بإرادتنا وأيدينا، فهذا ما علمتنا إياه الثورة، أن نعتاد القوة والصلابة في كل حال، وهذا ما أخذته منا الثورة، شيء من نضرة ملامحنا، وانعكاسات ألم شعب بأسره في عيوننا، خط الزمن الذي اخترق أعمارنا منذ 2011، لا يشبه أبداً بأحداثه السعيدة والحزينة بداياته، مع تاريخ ميلادنا، فهناك تاريخ ميلاد جديد فرض نفسه، وحيثما حُرّرت سوريا كان ميلادنا جميعاً.

تلفتني كثيراً فئة الصغار، وأحب كثيراً أن أقرأ شيئاً عن تاريخ الثورة في عيونهم، أغبطهم كثيراً، وأحزن عليهم أحياناً، فقد اعتادوا حالة القلق التي استنكرناها نحن، وعاشوا تحت القذائف وعايشوا حصارات وتهديدات ومحاولات هرب، واعتقل أقاربهم أمام أعينهم، واحترقت بيوتهم وهم يشاهدون دخانها يتصاعد، وانتزعوا قسراً من مدنهم التي أحبوها وأحبتهم، ورغم ذلك مازال بوسعهم اللعب والضحك والمرح، ومازال بوسعهم الحلم، أحاول كثيراً اختراق عوالمهم والإصغاء إلى ذكرياتهم، هذه الفئة التي فتحت أعينها على الثورة، وهي الآن في الثانية عشرة من العمر، كل طفلة من هؤلاء تحمل تاريخ سوريا في عيونٍ طفولية.

تحكي لي إحداهن عندما ذهبت مع والدتها لإنقاذ أبيها المعتقل في فرع الأمن، وعن المفاوضات التي دارت لتخليصه، وهو الذي اعتقل بسبب تشابه الأسماء، وكيف قرر الضابط فجأة إطلاق سراحه، وقال للأم بأنه سيطلق سراحه لأجل ابنته الصغيرة، إنها

مراحل شتى تغدو مهمة في حياتي، لا يستوقفني كثيراً تاريخ ميلادي، نجاحاتي، تخرجي، كتاباتي، أقف ملياً عند ميلادي الثوري، تاريخ إصابتي، التهجير

دائماً تذكر والدها بأنها هي التي أنقذته، الطفلة تفهم تماماً أن قلوبهم ليست رحيمة، فهي تذكر على الفور حكاية اعتقال مجموعة من الرجال وقتلهم بعد تعصيب عيونهم.

تفتخر فتاة أخرى بأنها تساعد أمها بالطهي للثوار، عمل ممتع، ومشاركة في الثورة في سن صغيرة، تدفعني تلك الفتيات لأسألهن عن خطوط الزمن، نحاول رسمها معاً، أكتب تاريخ ميلادي، وأفكر، كم هو قديم بالنسبة لهن، وأتحدث عن نقاط مضيئة وأخرى حزينة، أخبرهم كيف يعبر كل شيء، وكيف يغدو الحزن ذكرى عابرة، وكيف يمدنا بقوة ما لنتابع.

مراحل شتى تغدو مهمة في حياتي، لا يستوقفني كثيراً تاريخ ميلادي، نجاحاتي، تخرجي، كتاباتي، أقف ملياً عند ميلادي الثوري، تاريخ إصابتي، التهجير، وأمور شتى كثيرة يمتلئ بها خط الزمن بخطوط صغرى شمالاً وجنوباً، وأغدو مندهشة وأنا أكتبها وكأنني أكتشفها للمرة الأولى.

يحين دور الفتيات، ولا أتوقع أحداثاً مهمة يسردنها أكثر من ولادة أخ في الأسرة، هدية ما على نجاح، رحلة ممتعة أو ما شابه، أفكّر في أعمارهن عندما بدأت الثورة، وأتخيل نفسي مكان كل واحدة، وهي ترى كل هذه التقلبات والأحداث، ولا أدري فيما إن كانت تفهمها أم لا، تتسابق الأيدي للأوراق والأقلام، تتعرج الخطوط وتستقيم، يغدو السهم الذي يقود إلى المستقبل غامضاً جداً، وترسم كل خطها الزمني بشغف، ويبدأ الكلام حسب الرغبة.

 من دير الزور، وضعت تاريخ ميلادها، وتاريخاً يربطها بالميادين مدينتها التي تحب، وتاريخ استشهاد أخيها، ومن ثم نجاحاتها الجميلة، والكم الهائل من السعادة الذي تجده في مجتمع أحبّت الانتماء إليه مؤخراً.

الطفلة الدرعاوية سجلت ضمن تاريخ انتصاراتها تاريخاً مهماً، شهدت فيه طرد مدير المدرسة الموالي لبشار الأسد من القاعة، كان عمرها 7 سنوات، عندما طالبتها إدارة المدرسة بكلمة مؤيدة، ففاجأتهم براءتها وقالت بأن بشار لا يفعل شيئاً سوى قتل الأبرياء والأطفال، ويؤيدها الأهالي في القاعة، وتنقلب الأمور ضد مخططات المدير فيخرج من القاعة صاغراً.

طفلة من الباب سجلت بفخر تاريخ أول مظاهرة شاركت فيها مع والدها، كانت عندها صغيرة جداً، ومع ذلك شاركت بالهتاف بكل حماسة، وهي إلى الآن مشاركة مهمة عندما يتطلب الأمر ذلك.

دوما كانت مدينتها وعشقها، خطها الزمني كان بأحداث قليلة، قالت بأنها لن تخبرنا بكل شيء، ستحتفظ ببعض الذكريات لنفسها، لكنها قالت إن أتعس لحظتين مرت بهما في حياتها هي لحظة مغادرة دوما عندما هجّرت منها قسراً، واللحظة الثانية عندما ستغادر سوريا إلى تركيا، قرار واجب التنفيذ رغم كونه يؤلمها، ضمن ظروف الشمال المتقلبة والصعبة.

فاجأني أن خطوط زمن الصغار في التسعة أعوام التي خلت كانت ثريّة بقدر عمر بكامله، والنضج الذي تركته داخل الجيل يستحيل أن يُمحى، وأحداث الفرح ظلت راسخة ثابتة، لم يستطيعوا انتزاعها ولا محوها، وهذا الجيل يدرك جيداً واقعه، ويمتلك أحلامه الخاصة.

كنت أجمع خطوط زمن الآخرين وأفكر بخط الزمن السوري، إلى أين يتجه؟ وكم ستطول فيه المحطات الأليمة والمزعجة!

بكل الأحوال ستبقى كل المحطات عابرة، ويبقى المهم في ذلك كله الأثر الحسن الذي نتركه أفراداً وجماعات، في حياتنا، وفي تاريخ أوطاننا، تلك النقاط التي تضيء حتماً، مهما انقلب العالم، وضجّ بطول العتمة.