خالتي شلبيّة وعمتي بيرنيتا

2021.05.16 | 06:29 دمشق

c206f6242266b24434cae65e8e768c2f.jpg
+A
حجم الخط
-A

اتصلتُ بخالتي من أجل التهنئة بولاية سلطان الشهور رمضان عرش الزمن.

 لي خمس خالات، ليس على خدي، وإنما بين أطلال الوطن، نزحتْ سادستهم إلى ألمانيا مع ولدها إبراهيم، وشرد بقية أبنائها إلى سلطنة عمان، فرحبت بي وتذكرتْ أمي، سابعتهنَّ، وقالت إنها كانت حلوة، بيضاء مثل قرص الجبنة، وكريمة وصُناع.

 شكت لي إنَّ هاتفها معطل يا بن أختي، واسمها لا يشرق على الشاشة، ويرسل الصوت، لكنه لا يرى الصورة، "صوم" من غير صورة، وروت لي جانبًا من قصتها مع جاراتها الألمان، ولم تتذكر سوى اسم واحدة منهن، وتفضّل وصفها بالصهباء، واسمها "برنيطة".

أسماؤهن عجيبة يا بن اختي، صعبة الحفظ، وهناك صديقة أخرى وصفتْها بصاحبة الجرو، وثالثة هي قصيرة الشعر.

تزور الصهباء خالتي قبل الظهر، فابنها إبراهيم يذهب للدرس وتعلّم الألمانية، تشدُّها ريح الطعام، وتقول لها بلسان اليد، تعابير الإعجاب والحب، فخالتي لا تعرف من الألمانية سوى أسماء الحيوانات: فيل، حصان، خنزير حاشكم ابن أختي، هدهد. وتقول لها الصهباء إنَّ الطعام هو الذي شدّها وجذبها إلى بيتها، تقول لها خالتي: الدواء هو السبب، فهي تسمي البهارات مثل قومها الكرد: الدواء، فالطعام مريض حتى يتداوى بالتوابل ويعالج بالكي، وتمدّ يدها إلى قوارير الدواء من صيدلية المطبخ؛ عصفر، شمرا، فلفل، قرنفل، كزبرة.. ، ثم تقوم بتوليد طبخة من بطن أمها النار، كل أم تحترق في سبيل أبنائها، فتأكل، وتبدي جارتها الصهباء برنيطة إعجابها بالطعام، فتقول خالتي إنها سترسل لها سكبة مع ابنها، فحركتها قليلة، ويؤلمها ارتقاء الدرج، وليس أكثر من سبع دركات نزولًا، أو سبع درجات صعودًا، ويشاقها العروج.

تقول خالتي إنها مشتاقة لي، وإلى ابني، وكانت تقبّله صغيرًا فيقول لها: خففي يا خالتي فإن خدي يؤلمني من قبلاتك، وتضحك وتتذكر أمي الحلوة مثل حمامة والبيضاء مثل قرص الجبنة، أسألها عن صور صاحباتها  الألمانيات، فتقول لي إنها لم تحضر الصور معها، لأنهن عاريات، أذرعهن مكشوفة وحرام لا يجوز عرضهن على رجالنا، هذه عورات وأسرار، وتخبرني أنَّ الصهباء كانت تحضر كرسيها الذي يطوى مثل آلة الموسيقا (تقصد الأوكورديون)، فتعلّمني ما شاءت من الألمانية عبر الصور؛ الفيل اليفنت، الحمار أكرمك الله ابن اختي إيسل، الطير فوكل، الكلب أكرمك الله ابن اختي هند (وليس باكستان).

وتخبرني أنها زارت الصهباء، فوجدت كرمة في حديقة دارها، وقد يبس الورق، فوضعت يدها على فمها مصعوقة:

  •  ما هذا يا أمة الله، غفر الله لك

أمّا صاحبة الجرو الهرة، فكانت تصحب جروها كل يوم مرتين في نزهتين طويلتين، فيطوفان بالقرية طواف القدوم وطواف الإفاضة

وندبت الشجرة المسكينة المغدورة، وهرعت إليها كما يُسرع إلى الشاة بالتَّذْكِيَةُ، والتذكية: الذَّبْحُ والنَّحْرُ، وطفقت تقطف الورق وتنحره، حرام يا صهباء اللون، تهدرون هذه النعمة، هذا  طعام، قالت الصهباء: ليس "أيسن"، لا يؤكل، بل أيسن، يعني طعام، ويؤكل، وتفّت الصهباء على الأرض، فهدأتها خالتي: بل يؤكل، اسمحي لي بتذكية ما بقي من الورق قبل أن يخشب ويشيخ، وستذوقين أكلة طيبة، أحضري ليس كيسًا، فأحضرت لها كيسا ورقيًا جميل المنظر، له مقبض وملأته، وأخذته إلى البيت، وجعلت تحشوه بالرز واللحم و"الأدوية" التي وصفها حكماء الطبخ لطعام ورق العنب، وأحضرت للصهباء سكبة، بعد أن ذاقتها أمامها حتى تطمئن، فأكلت الصهباء، وحلّقت وفقدت الجاذبية الأرضية من اللذة.

أمّا صاحبة الجرو الهرة، فكانت تصحب جروها كل يوم مرتين في نزهتين طويلتين، فيطوفان بالقرية طواف القدوم وطواف الإفاضة.

لم نسمع لجروها نباحًا قط يا بن أختي، وهو يتمسح بالبشر مثل الهرة، الهررة تحب المسح والدلك والتحرش، كأنه كلب تحوّل إلى هرّة، نجلس في الشمس، كنت أحب أن أجلس على العشب، لكن ظهري يؤلمني يا بن أختي.

 قصيرة الشعر، شعرها مثل الشباب، بل إنَّ شعر ابني إبراهيم أطول من شعرها، فقلت لها:

ويحك يا أمة الله، لمَ حلقت شعرك الجميل؟! الشعر زينة للنساء، فتضحك وتفهم كلامي.

لديهم في الحارة مختار يعني بشؤونها، ويصون أعطال بيوتها، وليس مثل مخاتيرنا، وهم من قوم نبينا عيسى عليه الصلاة والسلام، طيبون، لم يكن في الحارة سوى واحد من قوم الشرِّ، نسلِّم عليه فلا يرد، ولا ينظر إلينا عُلوًا وتيهًا. قال إبراهيم: لا تسلمي عليه بعد الآن يا أمي، هذا سرسري، وحصرمي، (تقصد عنصري)، فخالتي كردية لا تُحسن العربية.

الصهباء وقصيرة الشعر تمكثان عندي حتى عودة إبراهيم، جاءت موظفة وأبلغتنا أنَّ الدولة توجب على كل مقيم بأرضها تعلّم اللسان الألماني، والمثول في المدرسة كل يوم، فامتنعتُ، فأنا مريضة، أخبرهم إبراهيم أن أمه مريضة، وإذا وقع لها شرٌّ فهم المسؤولون، وسيقاضيهم، فكفّوا، وأبلغونا بضرورة بيان العذر رسميًا، عبر الوثائق، فسعى في إنشاء وثيقة تقاعد أو مرض، وسلمها لهم.

وأخبرتني خالتي أنَّ الصهباء دعتها إلى عيد ميلاد ابنتها، وأهدتها كيسًا من الشوكولا، وإنّ خالتي أخبرتها بأن الشوكولا السورية أحلى وأطيب، وهي مصابة بالسكر، وإنها ضجرت من ألمانيا، وهي جنّة لأهلها، لكأنها تشعر بالوحدة وتحنُّ إلى الأذان، وأخبرتني أنّ لإبراهيم صديق سوري خباز، ماهر في صناعة الرغيف، وكان يهديهم عشرين جرابا من الخبز، فيوزعونها على الجيران الألمان الذين أحبّوا الخبز السوري، وأنها أخبرتهم أنّ الرغيف السوري يغني عن الملعقة. وأنهم عرضوا عليها ثمن الخبز فقالت لهم: "على أرواح أمواتنا"، وروح أختي، أمك يا بن اختي، والله كانت كريمة وأقرب الأخوات إليَّ، خبزٌ بشامات من الحبّة السوداء، أو عليه نمش من السمسم، تفوح منه رائحة الحياة والبعث والنشور والربيع.

 وكانت الصهباء تضع لي بطانية على الكرسي، وتنهاني عن الجلوس على الدرج، ولها كرسي "اكورديون" جميل لا ينقصه سوى أن يصدر الموسيقا، فنمكث في الظل حينًا، وتعلمني الألمانية؛ بحر يعني مير، شجرة باوم، سماء هِمل، البَرَد هاكل.

 فيجالدهم الحر، ويجلوهم إلى الظل الإمام، إلى أن يستدير النهار، فيدرنَ معه حيث دار، وفي دار الصهباء أشجار، الفاكهة تسقط منها ولا يأكلها أحد، فكنت أجمعه، فتضحك وتقول: دعيه، هو سماد للأرض، وكلي من أكرم الثمار من الثلاجة، فأقول حرام، سيسخط الله عليكم، هذه نعم ومن النعم إكرام النعم، الفاكهة رخيصة ومرتبة في الثلاجة، فأقطف وأملأ سلّتي، فلا يأكله أحد منا، النفس مسدودة، وهي لا تشتهي إلا مع الأهل ابن أختي.

ثم إنّ خالتي عملت لهم جبنة سورية حلوم، فأحبّوها، طلبت حليبًا، فأحضره لها إبراهيم، وصنعت لهم جبنة أحبوها كثيرًا، جبنة مطاطية لم يعرفوها من قبل، جبنة تشوى مثل اللحمة والكباب، وأخبرتني أنها اشتاقت إلى أولادها، وهم يقيمون في عمان، فركبتُ الطائرة ووصلت إلى عمان، فأخبروها في المطار أنهم سيعتذرون عن استقبالها لأن جوازها انتهى، فتعجبت، فقد جاءت بالطائرة العمانية، فلمَ سمحوا لها بركوب الطائرة! فأخبروها أنّ جوازها كان صالحًا في ألمانيا وانتهى في الجو، والجواز على المؤمنين والكافرين كتاب موقوت، فوبختهم وعيرتهم بإسلامهم وعروبتهم، تلبسون العمائم، وأسماؤكم أحمد، ومحمد، وتقهرون امرأة مسكينة مثل أمكم، أليس فيكم نخوة ومروءة، والله لأقاضيّنكم، فخافوا، جوازها ألماني، وحقوق المسافر مصانة، وهي مريضة، قالت لهم: قد أموت وستدفعون ديّتي والجزية عن يد وأنتم صاغرون، فخافوا، وأسعفوها إلى فندق وعالجوها، وأعادوها بعد الترميم، بعد أسبوع إلى ألمانيا، فجددت جواز السفر، وعادت إلى عمان.

إبراهيم بلا زوجة، الرجل من غير امرأة مسكين، يموت من الجوع، الرجل يستحق الشفقة، أما المرأة، فهي قوية، الزوجة أمٌ ثانية يا بن اختي، وإنَّ الصهباء دعتها إلى مطعم، فاعتذرت وقالت: يا صهباء! لمَ نهدر مالنا وطعامنا أطيب؟ لم آكل في حياتي في مطعم.

الصهباء وقصيرة الشعر وصاحبة الجرو ساعدنها في نقل أمتعتها من البنسيون الذي أقاموا به مدة ستة أشهر إلى البيت الجديد

وأسرِّت لي خالتي أنها خشيت أن يلوثوا طعامها بدهن الخنزير أو لحمه، أعاذك الله ابن أختي، اسمه في الألمانية "شفان" مثل اسم المطرب الكردي، ثم إنّ الصهباء رسمت لها سمكة، فأكلت، وأعطاها عمال المطعم كأسًا هدية، عليه اسم المطعم، وهي عندهم عادة، والصهباء أهدتها أمتعة كثيرة وسريرًا وآنية، وأهدت إبراهيم دراجة جميلة مثل العروس، وبعد الطعام تجولتا في حديقة، فيها طيور كثيرة وغزلان ونعام، النعامة: شتراوس ابن اختي، وصحبتها الصهباء إلى بيتها، ولكل بيت قبو، وهذا من أثر الحرب العالمية، وبها آلات ومدخرات وأمتعة قديمة. وبيوتهم كلها مقببه من الأسفل والأعلى، وهم قوم كرام، خالتي تحبُّ الجيران وتخشى الأماكن المفتوحة، وكان منشر الغسيل كثير الأوتار مثل الطنبور، وإن الصهباء وقصيرة الشعر وصاحبة الجرو ساعدنها في نقل أمتعتها من البنسيون الذي أقاموا به مدة ستة أشهر إلى البيت الجديد.

واشتكت كثيرًا من الألماني الحصرمي (تقصد العنصري): نسلّم عليه: هلو هلو... فلا يرفع رأسه يابس الرأس، حتى نهاها ابنها إبراهيم من السلام عليه، وتحيتهم كراس كوت Groß Gott، معناها: الله أكبر، هم من قوم نبينا عيسى عليه الصلاة والسلام.

أطال الله عمرك ابن أختي، سلّم لي على زوجتك وبناتك، وكل عام وأنت بخير، أغزو وجهك من الجهتين بالقبلات، (ابني يقول إنّ قبلات خالتي تشبه الحجامة بكاسات الهواء) لا أراك الله مكروهًا، وأنالك مرادك، أختي كانت مثل قرص الجبنة بيضاء وكانت كريمة، وقالت خالتي إني أُشبهها خلقا وخلقا، لها. طلبت منها رقم الصهباء لأتصل بها بِرًا بك يا خالتي، ويوم أموت ويوم أدفن حيا، غدًا العيد، سأتصل بالصهباء وأقول لها بارعك الله طاعتك وتقبل منك رمضان، وأطمئن على صحة عماتي؛ قصيرة الشعر، وصاحبة الجرو.