حين يكون الانتحار مؤشراً على إخفاق سياسي

2021.12.18 | 06:17 دمشق

images_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

نتيجة للضغوط الآتية من أعلى؛ من الطبقات السياسية، ونتيجة للأزمات الاقتصادية البالغة القسوة، يتمدَّد الضغطُ إلى الجوانب؛ إلى أزمات بَيْنِيَّة داخل الأُسَر والأفراد، وإلى داخل الأفراد أنفسِهم، فقد ارتفعت نسبةُ النزاعات الاجتماعية الخطيرة، كما ارتفعت حالاتُ الانتحار، بعد تفاقُم الأزمات النفسية.

تصاعدت العدوانية، بنوعيها ضد الغير، وضد النفس، ذلك في بلدان عربية عديدة، منها لبنان، وفي مناطق سيطرة النظام في سوريا. وفي فلسطين المحتلَّة، في الداخل الفلسطيني، وفي الأراضي المحتلة في الضفة الغربية، والقدس، وفي قطاع غزة، بأشكال الشجارات المُفضِية إلى القتل، أو بالانتحار الفردي، أو باللجوء إلى المغامرة بالحياة، كما في قطاع غزة، والموت غرقًا؛ في الطريق إلى الهجرة، وفي بلاد عربية أخرى.

وعلى صعيد الانتحار، يدقُّ لبنانُ ناقوسَ الخطر، فوَفْقًا لـ "إمبرايس"، (وهي جمعية خيرية للصحة النفسية، مقرُّها لبنان، أطلقت أوَّلَ خطِّ مساعدة هاتفي؛ للوقاية من الانتحار) يُنهي شخصٌ حياتَه، كلَّ يومين ونصف.

وسواء أكانت تلك الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ناجمة عن اختلالات سياسية داخلية، أو ناتجة عن مظالم خارجية، (كما الاحتلال) فإن العدوانية هي المستفيدة، بشكليها؛ عدوان ضدَّ الغير، أو عدوان ضدّ النفس؛ بانتصار غريزة الموت على غريزة الحياة.

قرار الانتحار ليس قرارًا عقلانيًّا، بقدر ما هو هروبيٌّ، انسحابي، حين يشعر مُقرِّر الانتحار أنَّ حياته ما هي إلا فرصةٌ للعذاب الأليم، الذي لا يُحتمَل؛ فيقرِّر وضْعَ حدٍّ لحياته

وفي الأسباب تراكُم السكوت عن مُسبِّبي الأزمات، بل والمشاركة في استبقائها، بوعي، أو دون وعي، وكما قيل فإنَّ ثمن الجبن أعظمُ وأفدح من ثمن مواجهة الظلم، لكن آمال، أو أوهام الخلاص الفردي ظلَّت تداعب مَن كانوا، أو مَن أحبُّوا أن يعتقدوا بأنهم في منأى من الخطر، ومن الارتدادات، حتى اتَّسعت الدائرة؛ فطاول الفقرُ ملايين الناس، ولم يعد الفقر مشكلة الفقراء؛ إذ لم يعد الفقر ظاهرة فردية، أو محدودة، بل مجتمعية، فليس الفقر بالضرورة؛ نتيجة كسل الفقراء، أو سوء إدارتهم، أو قلَّة مهاراتهم وخبراتهم، أو نتيجة توارثُهم الفقر عن آبائهم، فقد انضمَّ إليهم كثير من الناس؛ الناجحين والجادِّين والطامحين، وذوي المؤهِّلات العلمية والعملية، والاجتماعية.

لا يخفى أن قرار الانتحار ليس قرارًا عقلانيًّا، بقدر ما هو هروبيٌّ، انسحابي، حين يشعر مُقرِّر الانتحار أنَّ حياته ما هي إلا فرصةٌ للعذاب الأليم، الذي لا يُحتمَل؛ فيقرِّر وضْعَ حدٍّ لحياته، حيث لا أملَ لديه في التخلُّص من أسباب العذاب، إلا بالموت، وحيث الإحباط التام، لحظة الإقدام على الانتحار. وأحيانا تتداخل الحالات المرَضية مع الأزمات الاجتماعية، إذ تخيِّم الحالةُ الاقتصادية والاجتماعية المتأزِّمة على الصحة النفسية، خصوصًا لدى الذين لديهم قابلية لذلك.

ومِن المعروف أنَّ مقادير الألم والإحباط ليست متلازمة تلازمًا سببيًّا، وحتميًّا مع الانتحار، فقد يتعرَّض أناسٌ لإحباطات وآلام أكبر، ولا يُقْدِمون على الانتحار، أو لا يفكِّرون في هذا (الخيار)، يعود ذلك بالطبع إلى المناعة النفسية، والوعي المغاير، خذ مثلًا السجناء السياسيِّين، الذين يقعون تحت قبضة جلّاديهم، فغالبًا ما تحميهم روحُهم النضالية، ووعيُهم بتلك الحالة، أو الثمن، الذي يتوجَّب دفْعُه، ثم نظرتهم إلى الجلّاد نظرةَ مقاومة، وعنادٍ وتحدٍّ، قد تصل حدَّ السخرية منه، والإشفاق عليه، ثم إعفاؤهم النفس من الشعور بالذنب، بل هم في تلك الحالة، يُكْبِرون ذواتِهم، فضلًا عن الروح الجماعية المتضامنة، ولو كانت محدودة السَّعَة، والعدد، لكنها المتماسكة، والهادفة. نستذكر، مثلًا، حالات الإضراب عن الطعام الذي خاضه، ويخوضه عدد من المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث الإشراف على الموت، مع ما يعنيه ذلك من آلامٍ عضوية، ونفسية محتمَلة. 

كذلك المرْضى الذين يمرُّون بأقسى إحساسات الألم، الجسدي، والنفسي، لكن يعصمهم، إيمانُهم، الديني، أو إرادتُهم، وآمالُهم بالشفاء. وهم مع ذلك لا يحمِّلون أنفسَهم عبءَ المسؤولية، والشعور بالذنب.

ولذلك فدواعي الانتحار قد تكون في اتحاد ثلاثة أنواع من الشعور؛ الشعور بالألم، والشعور بفقدان الأمل، أي الإحباط التام، بالإضافة إلى الشعور بالعجز. هذا الشعور بالعجز يعني تحميل الذات المسؤولية عن الوقوع في الفقر، مثلًا، وما يتبعه من شعور بالمَهانة، بسبب نظرة المجتمع، ونظرة الذات، لكن السؤال: هل الذات مسؤولة فعلًا، أو مُتسبِّبة في هذا الإخفاق؟ ماذا لو كان الأفراد ضحايا ظُلْمٍ عام، وخللٍ اقتصادي أكبر منهم، ومن قدراتهم؟

لكن سيادة اقتصاد السوق، والفردانية، إلا في نطاقات ضيِّقة، وضعيفة التأثير، وتغوّل رأس المال، واحتكار سلع ضرورية، كالغذاء والدواء، وسائر الضروريات، بالتوازي مع تراجُع الدور الرعائي للدولة، من شأنها أن تُضعِف حالات التضامن الجماعي، وتعمِّق الأزمات؛ فحتى أولئك المدركون لحالتهم المرَضية، والمقتنعون بحاجتهم إلى رعاية طبية، لا يجدون المال الكافي؛ بسبب الكلفة العالية لتلك الرعاية النفسية.

ومهما قيل عن عوامل خارجية؛ نتيجة الحروب، أو الحصار، مثلًا، أو نتيجة الغلاء العالمي؛ فإن مَن يقبض على الحُكْم (وتاليًا على المقدَّرات والثروات) هو المسؤول الأول عن تقديم حلول، وخصوصًا مَن يقبض على السلطة، منذ عقود، كما هو الحال في سوريا، حيث نظام الأسد؛ الأب والولد، وكما الحال في لبنان، حيث لحزب الله، ومِن ورائه إيران، السيطرة الكبرى على الدولة، وكما هو الشأن في العراق، بعد عهد صدّام حسين، إذ السيطرة لأتباع إيران.

حين نعلم أن النسبة الأكبر من المنتحرين هم مِن الشباب، ومن بلاد كلبنان وسوريا، فالانتحار، حينئذ تعبيرٌ عن القهر

فلا يخفى أننا لن نتمكَّن من توفير حلول فردية، حين تكون الأزمة جماعية؛ سياسية، واقتصادية، في تغوّل الفساد، إذ الحلول الحقيقية في التخلُّص من تلك السيطرة المستبدّة على مرافق الحياة، ومراكز القرار، وفي توزيع عادلٍ للثروات، والفُرَص.

نقول هذا، حين نعلم أن النسبة الأكبر من المنتحرين هم مِن الشباب، ومن بلاد كلبنان وسوريا، فالانتحار، حينئذ تعبيرٌ عن القهر، حين نعلم أن اللبنانيين والسوريين لا تُعْوِزُهم الحيلة، والمهارات؛ فمشهودٌ لهم بنجاحات متميِّزة خارج، سابقة في أوطانهم، وراهنة، خارج بلدانهم؛ برغم أنَّ كونهم ليسوا مواطنين أصليِّين فيها، لا يعمل لصالحهم. بيدَ أن إدراكهم لهذه الحقيقة عن أنفسهم مع حرمانهم من فرص النجاح، يسبِّب لهم صدمة وإحباطاً، فالظلم في الوطن أكثرُ إيلامًا.

فما دامت السلطات الحاكمة في البلاد العربية، على فسادها، وقلَّة كفاءتها، تستأثر بالقرار السياسي، وتُصادِر مستقبلَ الناس، فالأزمات الفردية والجماعية ستتفاقم، حين يحسُّ كثيرٌ من المواطنين أنهم مغلوبون لصالح نظام يجثم على صدورهم بالقوة، ويجهض أيّ تحرُّك طبيعي لإنصافهم؛ والنتيجة أنّ ارتدادات تلك الأزمات السياسية؛ بفسادها، واحتكارها للسلطة، طالت بلادًا غنيَّة، كالعراق.

والنتيجة إنَّ حزام الفقر صار يتسع ليشمل حتى مناطق معروفة بتأييدها للنظم الحاكمة، كما في سوريا، وحتى إن مقادير التسابُق والتناهُب الداخلي، (بالإضافة للنهب الخارجي) لم تجعل الدائرين في فلك الأنظمة الحاكمة في مأمَن، فبسبب استشراء الفساد والجشع، واتساع دائرة الانتهازيِّين والطامعين، لم تعد الثروات الباقية كافية إلا للحلقات الضيِّقة والمُقَرَّبة.