حلب في نظر شاعرها

2023.01.30 | 05:11 دمشق

صفوح شغالة
+A
حجم الخط
-A

في أثناء انشغاله بالإعداد للاحتفال بما يسمّيه النظام «انتصار حلب»، قبل نحو شهر من الآن، فاجأ الموت الشاعر الغنائي صفوح شغّالة الذي كان يؤدي هنا دور المشرف العام، وهي خبرة اكتسبها من العمل لسنوات مع شركات إنتاج في لبنان، مديراً فنياً أو تنفيذياً أو مستشاراً، بالإضافة إلى شهرته العريضة ككاتب كلمات أغنيات رائجة انتشرت بأصوات بعض المطربين المعروفين في السوق الفني اللبناني، والعصر الذهبي للشركة البارزة روتانا، خلال عقود ماضية.

ولد صفوح شغالة في حلب عام 1956. وفي السابعة عشرة من عمره غادرها إلى القاهرة حيث انتقلت أسرته. وتقريباً لم يرجع للسكن في مدينته إلا لماماً بين هجرتين، فقد أقام 15 سنة في القاهرة، و20 في بيروت، وسبعاً في دمشق، قبل أن يعود ليحط رحاله قبل وفاته بوقت قصير، مثبتاً أنك كي تتغنّى بحلب يفضّل أن تعيش بعيداً عنها.

لكن ذلك لم يمنع الكثيرين من إطلاق لقب «شاعر حلب» على شغّالة الذي استطاب الأمر ووجد أنه يستحقه، إذ إنه لطالما كتب، من منافيه الطوعية المريحة، أغاني عديدة عن هذه المدينة، لحّنها موسيقيون حلبيون في الخارج كذلك، وتوازعها مطربوها المكرّسون والشعبيون. وكان شغّالة قد كشف مراراً عن «سرّ الصنعة»، وعن الطريقة التي أمسك فيها بموهبته كشاعر غنائي، بعد أن كان بائع خضار في «سوق الهال» المركزي، بالاعتماد على كلمات القوافي التي استخرجها من دواوين شهيرة ودوّنها في دفتر خاص لينسج على إيقاعها.

بهذه الطريقة يمكن تنظيم المفردات التي تنسجم مع قافية حلب؛ وتتكون من: الذهب، والطرب، والكبب، وانسكب، وانسلب، وانكتب، والأدب، وغلب، وكذب، وعجب، وعزّ الطلب. وبالتناوب مع قواف أخرى في الكوبليه أمكن استخدام هذه الكلمات لتركيب عدد من الأغاني. فقد ينقلب تراب المدينة إلى ذهب، أو يُكتب اسمها بمائه، أو ينكتب البعد عنها أو الغرام بها أو العذاب لفراقها، أو ينسلب لأجلها العقل أو القلب أو ينسكب الدمع العجب. وفي كل أحوالها تلبي هذه المفردات الطلب المستمر على كتابة أغنية محلية لمدينة متعبة وتضمحل، خاصة في في السنوات الأخيرة.

فبالمقارنة مع التراث الذي سجّله المطرب الحلبي الأشهر، صباح فخري، تكاد تسمية حلب لا تحضر إلا عرَضاً وفي أدوار هامشية؛ مرةً حين يُنادى الرائحون إليها، ممن حمّلوا تحت العنب التفاح، ومرة حين يمشي المطرب نفسه على دربها ويلاحظ «سجر الزيتون». والأرجح أن هذه المدينة، عندما كانت تصنع «القدّ» وتضبط المعيار، لم تكن في حاجة إلى من يصرخ بغرامها بهذا التكرار المفرط الذي نستطيع رصده من خلال عدة حلقات على يوتيوب في برنامج ارتجله شغّالة بعنوان «ثرثرات»، تحدث فيها عن أغانيه «الوطنية»؛ وهو يقصد هنا تلك التي تغنّى فيها بحلب والذهب والعجب، وبوطنه الأعم سوريا، وبالقائد الذي يفتخر به بشار الأسد.

ظهر أكثر هذا الإنتاج «الوطني» خلال «الأزمة» كما يسميها شغّالة. وإن كانت بوادره قد أطلّت سابقاً مع أوبريت كان قد ظهر عام 2010 بعنوان معبّر هو «شكراً على العشر الماضيات»

ظهر أكثر هذا الإنتاج «الوطني» خلال «الأزمة» كما يسميها شغّالة. وإن كانت بوادره قد أطلّت سابقاً مع أوبريت كان قد ظهر عام 2010 بعنوان معبّر هو «شكراً على العشر الماضيات». وفيه تشكر شركة السعد للأدوية، المنتجة للعمل، بشار الأسد على العقد الأول من حكمه، بأصوات «نجوم حلب» كما ورد في التعريف؛ الذين كانوا نهاد نجار ومحمد خير الجراح وحمام خيري ومصطفى هلال وصفوان العابد ووضاح شبلي وفؤاد ماهر وسامي سعد، وبكلمات شغّالة الفصحى هذه المرّة، التي يعبّر فيها المتحدثون «في العشر الماضيات رأينا فيك الكثير/ رأينا العلم والتنوير والحداثة والتطوير»، كما أنهم رأوا «رفض دعوات الذل والخضوع». فشكراً «لعهدك الميمون» الذي كتب فيه شغّالة أغنية أخرى قُدّمت بمناسبة الاحتفال بحلب عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2006، وتقول على لسان المطربة الحلبية الراحلة ميادة بسيليس: «شوفوا بلدي بلد الشمس/ اللي بتشرق بالحرية // شوفوا بلدي كيف الحب/ بيتصدّر للبشرية» وذلك قبل تصدير الكبتاغون.

لا مشكلة على كل حال، «بيكفينا إنك رجّال» كما تقول قصيدة للشاعر يخاطب فيها قائده ويدلق له كرامة مدينته بقوله: «بمية الدهب/ سيدي بشار/ بتحبك حلب»، المدينة «المنصورة»، كما تقول موسيقا وحنجرة نهاد نجار، «بعزم الجيش العربي السوري، وبالشعب الأسطورة»، وذلك في أغنية بادر الشاعر إلى كتابتها فور «تحرير حلب» وأرسلها للملحن والمطرب الذي أنجزها ونشرها في اليوم نفسه!

تناثرت كلمات شغّالة على ألسنة مطربين حلبيين كثيرين. ولأن هؤلاء مرتبطون بإحياء الحفلات والغناء في الأعراس يمكن النظر إلى ما صنعه بوصفه سردية قيد التكريس وجديرة بالتحليل. ولعل أول ما تمكن ملاحظته هنا هو بث الشعور الجماعي بالعظمة، كما في أغنية «محسوبك أصلو حلبي» التي تقول دون غضاضة: «الشهبا أم الحضارة». أما أغنية «آهين من اللي انكتب» فتقول: «ما في مدينة بتشبهلك/ بحسنك وبطيبة أهلك // تاريخك ماشي وراكي/ وأنت بتمشي على مهلك». وترسم أغنية «رغم جروحك يا حلب» الصورة الشائعة لما حدث في المدينة من وجهة نظر نمطية لرجل «الله يطفيا بنوره»، فهي صامدة «رغم السواق اللي انحرقو/ وكلشي معامل انسرقو/ والأيام السودة اللي مرقو»، مع شكر الفيديو كليب لمدينة الشيخ نجار الصناعية ولاتحاد شبيبة الثورة. في حين يخاطب شادي جميل من «تركت الوطن» بأغنية خاصة يسأله فيها عن الطريقة التي يعيش فيها «أيامك بالمنفى»، وإن كنت «بشمس الغربة عم تدفى؟» متجاهلاً حق الوطن عليك «لدمك يصفى». في حين تخاطب سمر عبد العزيز المغتربين بأغنية «حلب بتسلم عليكن»، وتنادي زميلتها شهد برمدا «يا مسافر على حلب»، ويخرج جورج مارديروسيان، الحلبي المغترب في بيروت، عن عباءة الملحن المكرّس بشدة ويؤدي: «ودّوا سلامي لحلب الأبية» وهو يقول: «مشتاق أجيها/ وأمشي بحواريها/ وأسهر لياليها».

لم يكرّم نظام الأسد صفوح شغّالة عبثاً، فقد أعاد الشاعر الموالي جمع «نجوم حلب 2021» في أوبريت «راجعة لعزّا حلب» الذي قدّموه في الذكرى الخامسة لسيطرة «الجيش البطل المغوار» على نصف المدينة طارداً سكانها من دون شفقة.