حلب الآن في الصناعة والسياسة

2021.09.06 | 06:09 دمشق

01.jpg
+A
حجم الخط
-A

بدت قصة هشام دهمان، الذي توفي قبل عشرة أيام، مثالاً نموذجياً. فالصناعي الحلبي كان قد اصطدم منذ أشهر مع وزارة المالية التي لوّحت بتكليفه بمبالغ طائلة كضرائب. ويومئذ كتب على صفحته في فيس بوك أنه سيوقف عمل منشأته لإنتاج المواد البلاستيكية حتى نهاية العام، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. لم يؤثر في درامية الحكاية أن هشام فقد، قبل أقل من عام، شقيقه الذي يكبره بسنوات طفيفة، وشريكه في هذه المؤسسة العائلية، بأزمة قلبية مماثلة. ولا أنه هو نفسه قد أجرى عملية زراعة شبكة عندما كان ينهي عامه الخامس والأربعين قبل نحو نصف سنة.

كما لم تفِد الحجج التي ساقها وزير المالية في حكومة النظام، وموظفوه، في إقناع المتابعين بأن دهمان متهرب من الضرائب، وأن منشأته لا تحتفظ بدفاتر ووثائق ولا تتبع نظاماً محاسبياً مقبولاً. فقد تهاوت هذه المبررات، قبل سماعها حتى أمام أيقونة إعادة دوران «عجلة الإنتاج»، وهي الأولوية التي سيطرت على حلب الأسد فور أن اجتاحت قواته الأحياء الشرقية من المدينة وهجّرت أهلها في الشهر الأخير من عام 2016، وخلّصتها من «رجس الإرهاب»، كما كان الصناعي الحلبي الراحل يقول، متناغماً مع الإعلام الرسمي. خاصة بعد أن شغلت «معامل حلب» ركناً أساسياً في رواية النظام عن المؤامرة التي استهدفت البلاد وعينها على نهضتها الصناعية وازدهارها الاقتصادي.

بدأت المعامل تعود إثر سيطرة النظام على منطقة «الشيخ نجار» حيث تتركز. ورغم ما تعرضت له من نهب وتخريب، كما قال دهمان، أخذت تستعيد عافيتها ببطء. وانتظر أصحابها من وزارات الصناعة والمالية والكهرباء في دمشق تقديم التسهيلات الممكنة لذلك. من هذه المنشآت كانت شركة دهمان بلاست، التي تطورت في الأصل عن دكان لبيع الأدوات المنزلية كان يملكه الوالد في حي «باب الحديد» التقليدي. وخلال السنوات الماضية أنتجت الشركة أصنافاً متعددة؛ كأحواض الزريعة المنزلية المدورة والمربعة والمستطيلة، وخزانة الأطفال صديقة البيئة والمكفولة، والطرابيزات المربعة، وسلال الغسيل الطويلة، وكراسي الإمبراطور المريحة والمتينة وعالية الجودة والمتوفرة بعدة ألوان وبأسعار منافسة، وكرسي الحمام زيزو بتصميم مميز، وأنواعاً مختلفة من اللمّامات لكناسة السجاد في ظل انقطاع الكهرباء، وترامس الماء البارد للسبب نفسه كما «لرحلاتنا» المرتقبة بعد انجلاء الأزمة. وسوى حمالة الملاعق موديل تاج، ولقاطات الغسيل سندس، وعلبة الخبز جامبو بالغطاء، وملاحة الكريستال المجوزة؛ طرحت الشركة لسيدة المنزل درّة منتجاتها في فرامة شام «السحرية» لتقطيع الخضر، مقترحة إياها، عاماً بعد آخر، كهدية مناسبة في عيد الأم.

02.jpg

بالتدريج أخذ عمل هشام وإخوته يتوسع «بنور الله». وعبر سفرياته إلى المعارض والمعامل في الصين وألمانيا وتركيا وإسبانيا صار يشتري الماكينات والقوالب لأصناف جديدة يضيفها إلى دورة عمله التي ربما بلغت، وفق زعم لجنة التكليف الضريبي بوزارة المالية، سبعة مليارات ليرة خلال السنوات الثلاث الماضية فقط!

ورغم ذلك كان أبو سمعو رجلاً بسيطاً، لم يتجاوز سنوات الدراسة الإعدادية. مغرماً بتبادل الصور الملونة لتصاميم صباح الخير، وجمعة مباركة، وفناجين القهوة، وعبارات الاستغفار والصلاة على الرسول وبركة رضا الوالدين والدعاء المستجاب لحفظ الأهل والصحة وطلب الرزق. وعندما لا يعمل فإن متعه في هذه الحياة الفانية تلخصت في الطعام الدسم، ورقص العربية في أعراس الأقارب والأصدقاء وأولادهم على إيقاع الغناء الحلبي، والذهاب إلى حمام السوق حيث يدخن أركيلة المعسّل وهو في المناشف فيشعر أنه ملك الدنيا.

شيئان كسرا نمطية الحاج هشام كصناعي حلبي من هذا الزمان؛ هما حبه لأغاني جورج وسوف وانتسابه إلى «الحزب الديمقراطي السوري»، عضواً في قيادته المركزية وفي قيادة فرع حلب!

فمنذ أن استقالت المدن من الحياة السياسية السورية، في الستينيات، بات غريباً أن ينتمي أحد أبنائها إلى حزب، فضلاً عن أن يكون بارزاً ونشطاً فيه. غير أن كلمة السر التي دفعت دهمان إلى تغيير طريقه المألوف بين معمله في المنطقة الصناعية ومحله في باب الحديد ومنزله في حلب الجديدة، ليدخل المكتب الفاره لهذا الحزب في حي الجميلية، كانت مؤسسه وأمينه العام أحمد الكوسا.

والحق أن الأستاذ كان شخصية أعقد بما لا يقاس من الحاج. ورغم أنه كان يقدّم نفسه وفق طبعته الأخيرة، التي طرحت في المجال العام مع تأسيس الحزب عام 2012، إلا أن العثور على معالم من سيرته الذاتية يظل ممكناً. فقد ولد في حمص، عام 1953، لعائلة من بواكير المهاجرين العلويين إلى تلك المدينة. ورغم تواضع دراسة الأب في الثانوية الزراعية، والوظيفة الحكومية العادية التي حصّلها بعدها، قاده طموحه إلى التطوع في «الحرس القومي» إثر استيلاء حزب البعث على الحكم، ثم تجاوز حالة السلطة الشارعية هذه إلى ركن جمركي عزّزه بصلات متينة مع أجهزة الأمن، مما مكّنه من تحقيق ثروة من مجموع المنافذ الحدودية التي تنقل بينها. وبخلاف المعابر الريفية البائسة التي اصطحب إليها مصطفى أسرته الكبيرة فإن حلب هي ما اجتذب ابنه أحمد فقرر الإقامة فيها منذ الثمانينيات. اكتسب لهجتها وتعرّف إلى عاداتها ودخل بيوتها وبنى علاقات واسعة مع طبقتها الموسرة. تساعده في ذلك أناقته وميله إلى الرفاهية وعلاقات أمنية يستطيع استثمارها، بطلاقة وعلى أرضية طائفية، عندما يحتاج.

عبر ثلاثين عاماً مارس أحمد أعمالاً مشروعة وغير مشروعة. وعندما جاء زمنه، بعد إصدار قانون السماح بتشكيل الأحزاب كأحد نتائج الثورة، كان جاهزاً؛ بشبكة علاقات بين التجار والصناعيين المحليين الذين أقنعهم أن فرصتهم قد حانت مع حزب بشعار «ديمقراطية؛ عدالة؛ تنمية»، وبحزمة علاقات معلنة مع جهازي المخابرات الجوية والعسكرية على الخصوص، وبأملاك اختارها بعناية؛ من منزله في حي الزهراء الراقي إلى مكتبه في محطة بغداد.

في 17 آذار 2012 عقد كوسا، الذي لم تكن تنقصه النرجسية والإعجاب بالذات، المؤتمر التأسيسي للحزب، ليتزامن مع يوم مولده وتصير الفرحة فرحتين، لكن مفاجأة عائلية ستنغص مسيرته الظافرة بعد وقت قصير. ففي حمص، التي كانت تشهد أعمال عنف طائفي متبادل، سيُخطف والده، الذي تجاوز التسعين، ويُقتل أبو نظير بعد مفاوضات فاشلة. بينما سيتابع أحمد مساره الذي لم يكن يحتاج إلى هذه الدفعة الإضافية، موالياً للرئيس منتقداً الحكومة، وأحد أفراد طاقم «معارضة الداخل» عندما يتطلب الأمر تمثيلاً صورياً للمعارضة، كما عندما شارك في إحدى جولات مفاوضات جنيف في 2016.

03.jpg
أحمد كوسا ووالده مصطفى

الصورة 03 وتعريفها: أحمد كوسا ووالده مصطفى

في 2020 ظن كوسا أن عهد الانتقال إلى غلة أكبر قد أتى مع انتخابات «مجلس الشعب» القادمة، فأقنع اثنين من ذوي المناصب الشكلية في حزبه بالترشح كمستقلين. وهكذا تقدّم هشام دهمان بأوراقه وبعض اللغو الذي سمّي برنامجاً. ركّز فيه على تحسين المستوى المعيشي للمواطن، والاهتمام بركائز الاقتصاد الوطني، وتأهيل البنى التحتية للأحياء المتضررة وتقديم قروض ميسرة لأهاليها، وطبعاً... «الدعم الكامل لأسر الشهداء وجرحى الجيش العربي السوري».

 

04.jpg

 

خسر دهمان الانتخابات ولكنه كسب «محبة الناس» كما أقنعه من واساه. وانتقد كوسا، مع معارضي داخل آخرين، شراء الأصوات الذي أدى إلى استبعاد مرشحيهم. غير أن المصائب، التي لا تأتي فرادى كما يقال، لم تلبث أن حصدت حياة الأمين العام نفسه بعد أشهر قليلة، إثر حادث سير على طريق حلب اللاذقية.

قبل أن يخلد هشام دهمان إلى هجعته الأخيرة عاش عاماً صعباً تزعزع فيه عالمه. فحتى قبل أن تأتي لجنة الضرائب اللعينة كان يعاني من ضعف الكهرباء وصعوبة التصدير واقتصار التصريف على السوق المحلية. ورغم تأييده الاحتفالي لبشار الأسد في الانتخابات الرئاسية قبل أشهر فإنه لم يلمس تطبيقاً لشعاره «الأمل بالعمل» في الواقع. في حين بدت له التجربة «السياسية» غير ذات جدوى، خاصة بعد غياب المؤسس الذي كان يرش على كل هذا الموت سكّراً.

05.jpeg
ملاحة كريستال مجوزة من موقع Dahman Plast على الإنترنت