حكومةُ العبث وأجيال "الأندومي" السورية

2023.01.11 | 06:11 دمشق

حكومةُ العبث وأجيال "الأندومي" السورية
+A
حجم الخط
-A

عندما كان عدد العاملين في مكتب التحقيقات الفيدرالي ""FBI في الولايات المتحدة الأميركية عام 1977، يبلغ (17,345) شخصاً، كان يبلغ عدد سكان أميركا (220) مليون نسمة، أي نحو/28/ ضعف عدد سكان سوريا، الذي كان يبلغ آنذاك (7800000) نسمة، بينما كان عدد رجال الأمن (49000) رجلاً. قد تبدو هذه المقدمة مجرّد إحصائية عابرة لا تُسمن ولا تُغني من جوع، لكنني اليوم أستطيع الجزم باطمئنان، بأنّ قصة العبث السوري بدأت من هنا.

بدأت عندما تولى حكم البلاد عقل أمني لا مدني، انقلابي لا مؤسسي، لا يحسن أصحابه سوى قمع أو استئصال كلّ أشكال الاختلاف والمعارضة، ففشلوا في مهمة الاشتغال على معطيات المجتمع الأهلي فشلاً ذريعاً، وعليه لم تُمارَس الخصوصيات الطائفية أو القومية تحت سقف الدولة الجامعة، بعقلية المداولة المثمرة والشراكة البناءة. فكانت الحصيلة النهائية تلغيم المجتمع السوري بهدف نسفه، وشلّ الطاقات الحية فيه، عبر تحويل مواطنيه إلى قطعان مسيّرة، تمارس طقوس الطاعة برؤوس مطأطأة، وتلوك رغيف القهر عن طيب خاطر.

نحن لا شك نتحدث عن السوريين، الذين تحدّوا واحدة من أقوى دول العالم، فأسقطوا تجربة سوريا الفيدرالية، التي بدأت في يونيو عام 1922 وانتهت بعد ثمانية عشر شهراً. ما حصل يومها، أنه وباسم الاتحاد السوري الفيدرالي الذي جمع بين دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين، حاول الفرنسيون إقامة تجربة فيدرالية مستوحاة من السياسات البريطانية، التي كانت قائمة على إنشاء مملكة عربية فيدرالية متحدة في الشرق الأوسط. فرأى السوريون أنّ ذلك النظام الفيدرالي غريب عن بلاد الشام وعادات أهلها وتاريخها، فأسقطوه ببساطة.

أضف إلى ذلك أنه بين الأعوام 1946- 1963 كانت البلاد تمشي بخطى ثابتة نحو بناء الدولة العصرية وتعزيز مؤسسات الحكم الجمهوري، قبل أن تحصل الواقعة السوداء، وأقصد "الانقلاب البعثي الشهير"، وعلى إثره نجح حكام سوريا الجدد في تقطيع أوصال البلاد، بتحطيم البرجوزاية الوطنية السورية أولاً، ولاحقاً الطبقة الوسطى وفق ما خططوا وعملوا به. وفي سعيهم لتحطيم هاتين الطبقتين، دمروا معهما اقتصاد البلاد وحضارتها ومخزونها الثقافي. لكنهم، وقد كان هذا أكثر فداحة، لم يقدموا بديلاً وطنياً واقتصادياً لما جرى تحطيمه. وقد ترافق مع تحطيم هاتين الطبقتين انهيار في منظومة الأخلاق والقيم التي عادة ما تكون الطبقة الوسطى حاملتها التاريخية والثقافية، الاجتماعية والأخلاقية. فانهارت مبادئ ومُثلٌ حكمت سلوك المجتمع السوري عبر قرون، لتحكمه علاقات جديدة غريبة عنه كلياً، بل ومستهجنة.

هناك ضرورة ماسة للنظر إلى العبث الراهن على أنه توسع طبيعي للمعنى الاستبدادي للنظام الحاكم

بعد عقود خمسة، لعلّ التحدي الأكبر الذي أنتجته الحرب السورية، يتعلق بتسارع الأحداث وتغيّرها المستمر وإدخال البلاد في حالة الاستثناء، ما يجعل الفاعل السياسي المرتجى لا يملك ترف التعالي على المتغيّرات والمستجدات اليومية، بل على العكس تماماً، هناك ضرورة ماسة للنظر إلى العبث الراهن على أنه توسع طبيعي للمعنى الاستبدادي للنظام الحاكم.

وفي الواقع كلما كانت المصلحة عارية وفجة فإنها تتدثر بشعارات خلبية، وبتصريحات زئبقية، وبممارسات أشدّ عنجهية، فثمة ما يسمى اليوم بـ "حكومة العبث"، وهي حكومة "العسكر دون رصاص"، تمتلك القوة دون وعي سياسي يوجهها، وذلك كله بالتوازي مع شيوع نظرة دونية لأولئك "المنفصمين" عن الواقع المأزوم، بعدما غدت السياسة السورية مجرد وظيفة تؤديها أجهزة مخابراتية في عالمٍ موازٍ، بعيد كلّ البعد عن الهمّ العام، لتتحول الدولة إلى واجهة لما يريده "القصر الجمهوري" وأذرعه الأخطبوطية الأخرى.

مناسبة الحديث هنا، الارتباط المفصلي بين حكومة العبث هذه وافتقاد الشارع السوري الثقة بها، لأنها ببساطة لا تعبر عن حقيقة بنائية ومؤسسية، بحكم كونها مجموعة قيم واتجاهات تدميرية تقوم على الإقصاء والتطرف باستخدام المال والخطاب السياسي المتشدد. ولا يمكن أن تُحارَب هذ الحكومة، التي أوصلت نحو 90% من السوريين إلى خط الفقر، إلا بحكومة تكنوقراط تعيد وضع الاقتصاد على السكة الحقيقية بعيداً عن التحزبات والعسكر. فقد أضاع السوريون سبعين عاماً فوّتوا فيها فرصاً عظيمة، كان يمكن أن تسهل تموضع سوريا في مكان أفضل من أيّ دولة من دول النمور الآسيوية أو الدول الناهضة.

واليقين أنه لن تنتهي المأساة السورية طالما سياسة العبث مستمرة، وهي، في حقيقة الأمر، ليست إلاّ سلطة بناء الواقع، تسعى إلى إعادة إقامة نظام معرفي يهوّن تقنّع عسف السلطة، وتعيد إنتاج النظام الاجتماعي. حكومة بلغت من العنجهية حدّاً دفع برئيسها ليُدلي بتصريحات "خارجة عن الطبيعة" من مثل: (الحكومة تدعم المواطن بطرق أخرى غير زيادة الرواتب دون أن يشعر!).

خذ مثالاً آخر أشد إيلاماً..

قبل عدّة أشهر أعلن صاحب شركة "أندومي" عن نيته إغلاق معمله لأسباب لها علاقة بصعوبة توفر المادة التي تُصنع منها الأندومي، وبغض النظر عن الأسباب، تراجع صاحب المعمل عن قراره بعد ساعات قليلة، معلناً أنه تلقى اتصالاً من وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام السوري، الذي وعده بتذليل الصعوبات التي تعرض لها المعمل بسبب الأوضاع في سوريا. في المقابل، وخلال السنوات القليلة الماضية، أعلنت عدة مكتبات عريقة عن إغلاق أبوابها، وليس نهاية بمكتبة "كردية" في اللاذقية التي أعلنت، بدورها، التوقف عن العمل نهائياً، بعد ثمانين عاماً من خدمة الكتاب والقراء، كلّ هذا ولم تشعر "حكومة العبث" بأنّ الأمر يعنيها على الإطلاق. ولتذهب الثقافة إلى الجحيم!.

لم يعد يخفى على أحد حقيقة جلية وهي أنّ نهجَ "التصريحات المستفزة والممارسات العنجهية" ليس ارتجالياً، ولا وليد لحظته، إنما هو عبث متعمد

ذات الوزير الذي دعم معمل "الأندومي" يُدلي بتصريح مفاده: (نحن نرفع الأسعار بسبب ارتفاع التكاليف من المصدر وتكاليف الشحن والجمارك، ولا يهمنا إقناع المواطن أمام الحقائق والواقع). بناء عليه لم يعد يخفى على أحد حقيقة جلية وهي أنّ نهجَ "التصريحات المستفزة والممارسات العنجهية" ليس ارتجالياً، ولا وليد لحظته، إنما هو عبث متعمد، اعتُمد استناداً إلى حقائق بالغة الأهمية، مغيّبة عمداً، ولا يُسمح بظهورها، أو التطرق لها. فقد ظهر واضحاً ما تحت القشرة الرقيقة لتلك الممارسات المجحفة، التي تُخفي مآسي المجتمع السوري. وهي بطبيعة الحال قشرة هشّة ومخادعة، تستقرّ تحتها تصدعات وتمزقات كبيرة، تشكّل، وبالرغم من كل محاولات طمسها وتجاهلها، عمقاً حقيقياً في صلب بنية الدولة السورية، بعدما فاقم النظام الحاكم من مسخها، فأصبحت ببنيتها غير مؤهلة للعب دورها أولاً، ولحيازة ثقة أفراد المجتمع ثانياً.

نافل القول، وإذا ما نظرنا لنصف الكأس الملآن، ومع استمرار "سياسة العبث الممنهج" في إفراز أجيال "الأندومي" دون توقف، لربما تقوم قائمة للسوريين المحاصرين بالهزائم الشخصية والأزمات العامة. فما حدث بعد عام 2011، ما كان ليحدث لولا أنّ الواقع المأساوي لم يعد يمكن احتماله، وأنّ هناك ظروفاً موضوعية كثيرة دفعت السوريين لكي ينفجروا. وعلى العكس من ادعاءات النظام، فإنّ هذا الانفجار تأخّر كثيراً، لأنّ أملهم في أن تعي العائلة الحاكمة عمق الأزمة كان سراباً. عائلة ساهمت في تشكيل صورة ظلامية عن شعبٍ استثنائي، خرج منادياً ذات يوم "الشعب السوري ما بينذل". وكانت هذه العبارة الركلة الأولى التي أسقطت جدار الخوف من هذا النظام العبثي المقيت، وأزاحت، جانباً، هالات القداسة التي أحيطت به.