حكم الجاهلية

2022.07.14 | 06:25 دمشق

 حماس مع إيران
+A
حجم الخط
-A

من حقنا أن نأخذ فرصتنا. تحت هذا العنوان، تبرر أحزاب الإسلام السياسي، استمرارها في المحاولة للوصول إلى مراكز صنع القرار، تنفيذياً وتشريعياً. لسنا انقلابيين ولا مزورين، بل إننا قبلنا بالطريق الديمقراطي وآلياته، وعبر هذا الطريق وصلنا للبرلمان بأغلبية تعبّرُ عن إرادة الشعب، ويحقُّ لهذه الأغلبية، حسب كل الدساتير الديمقراطية، أن تمارس دورها التشريعي والتنفيذي بالحجم الذي يتناسب مع أرقامها.

هكذا كانت طروحات وطموحات الجبهة الإسلامية للإنقاذ، حين فازت عام 1991 بمئة وثمانية وثمانين مقعداً في البرلمان الجزائري، وهو ما يمثّل 82% من عدد مقاعد البرلمان بالكامل. ألغى الجيش الجزائري نتائج الانتخابات، بذريعة إنقاذ الوطن من حفرة الظلامية والإرهاب، فدخلت الجزائر في حرب، سُميت بالعشرية السوداء، طرفاها حركات "الإسلام السياسي" من جهة، والجيش الجزائري تؤيده بعض التيارات من جهة أخرى. سقط خلال عشر سنوات، أكثر من مئة وخمسين ألف قتيل جزائري، لينتهي كل ذلك بترسيخ العسكر موقعهم في سدة الحكم، بمباركة "ديمقراطية" أميركية فرنسية، أما بقية المجتمع الدولي فقد آثر اتخاذ وضع من لم يرَ ولم يسمع.

أثبتت تجربة الإسلاميين في الجزائر بما لا يقبل الشك، أن الدول الفاعلة عالمياً وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وروسيا، لن تسمح بوصول أحزاب وحركات الإسلام السياسي للحكم

أثبتت تجربة الإسلاميين في الجزائر بما لا يقبل الشك، أن الدول الفاعلة عالمياً وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وروسيا، لن تسمح بوصول أحزاب وحركات الإسلام السياسي للحكم ودوائر صنع القرار في أي بلد، حتى لو تم ذلك عبر وسائل "ديمقراطية". تؤازر هذا المنع، أنظمة عربية غنية اقتصادياً، ليجتمع القرار الدولي مع المال والعسكر، مشكلين جبهةً يستحيل إلحاق الهزيمة بها، راهناً على الأقل، في عالم يحكمه منطق القوة، لا إرادة الشعوب وصناديق الاقتراع.

لم يعبأ الإسلاميون في مصر بالتجربة الجزائرية، ليتكرر السيناريو ذاته في مصر بعد واحد وعشرين عاماً، حين جرت أول انتخابات نيابية، بعد ثورة الشعب المصري وانتصارها المؤقت، على حكم الاستبداد المديد. أسفرت نتائج الانتخابات عن فوز واضح لحركات الإسلام السياسي، ممثلةً بحزبي "الحرية والعدالة" و"النور". الأول عن الإخوان المسلمين، والثاني عن الجماعة الإسلامية السلفية، بنسبة بلغت 71.2% من مجموع مقاعد البرلمان المصري، وهي نسبةٌ عالية جداً، حين نقارنها بنسبة 15% هي مجموع ما حصلت عليه كل الأحزاب والتيارات المصرية، بقديمها وجديدها.

تعهد الإخوان المسلمون بألا يستثمروا هذه الأرقام للاستئثار بالسلطة، وكان فيض من النصائح قد بلغهم حتى من أطراف علمانية، بضرورة خلق حالة من التشاركية الوطنية في حالة الانتقال السياسي بما تحمل من حساسية، من أجل نجاح التجربة الديمقراطية، لكن المؤسف أن الأيام اللاحقة قالت غير ذلك. تم انتخاب الإخواني "سعد الكتاتني" رئيساً للبرلمان، ومن ثم فاز مرشح الإخوان "محمد مرسي" بكرسي رئاسة الجمهورية، الذي كلف بدوره الإخواني "هشام قنديل" بتشكيل الحكومة المصرية تلاه تعيين محافظي المدن ومئات التعيينات الأخرى في مراكز القرار المختلفة، ليطير "الإيثار الثوري" الذي وعد به الإخوان مع هذه المعطيات، وغيرها الكثير.

لم يمهلْ العسكر التجربة الديمقراطية الوليدة إلا عاماً واحداً، ليحصل الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع آنذاك "عبد الفتاح السيسي"، مدعوماً بأنظمة عربية ودولية، فحلّ البرلمان والحكومة واعتقل رئيس الجمهورية، الذي توفي لاحقاً في السجن

لم يمهلْ العسكر التجربة الديمقراطية الوليدة إلا عاماً واحداً، ليحصل الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع آنذاك "عبد الفتاح السيسي"، مدعوماً بأنظمة عربية ودولية، فحلّ البرلمان والحكومة واعتقل رئيس الجمهورية، الذي توفي لاحقاً في السجن، لتبدأ اضطرابات شعبية واعتصامات في ساحات مصر، عمادها محازبو الإخوان المسلمين، وانتهت بمقتل 7626 مواطناً مصرياً، حسب منظمات حقوق الإنسان، معظمهم من كوادر ومؤيدي جماعة الإخوان المسلمين، ثم قام الجيش والقوى الأمنية المصرية، بحملات اعتقال وإخفاء قسري، ليبلغ عدد المعتقلين والمختفين قسرياً أكثر من 63 ألف مواطن. حُكم على 7246 منهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وأحيلت أوراق 2861 موقوفاً إلى "المفتي"، لتعود البلاد بعدها إلى خانة حكم العسكر، ممثلين بالوزير المنقلب عبد الفتاح السيسي، الذي غدا رئيساً للبلاد، بعد انتخاباتٍ شككت بنزاهتها معظم دول العالم بدايةً، لكنها تعاملت لاحقاً مع الانقلابيين كأمر واقع، ثم كسلطة "شرعية" فيما بعد.

 عام 2011، أي قبل مصر بعام واحد، كانت التجربة التونسية. تشابهت البدايات، ثورة شعبية، أعقبتها انتخابات برلمانية، أفرزت صناديقها ميلاً معقولاً للتوجه الإسلامي، من خلال حصول حركة "النهضة" على 37.04% من مجموع مقاعد البرلمان التونسي، وهي نسبة غالبة، حين نعلم أنها تبتعد بفارق كبير عن أقرب كتلة جاءت ثانياً، من حيث عدد النواب. مرت عشر سنوات اعتقد كثيرون خلالها، أن الإسلام السياسي قد يعلن نجاحه الأول في البلاد العربية. ظنٌّ كان مآلهُ الخيبة مرةً أخرى. لا يزال انقلاب الرئيس التونسي "قيس سعيّد" أبيض حتى الآن على الأقل. ولعله ينبغي لنا، من باب الإنصاف، أن ننوه للوعي الذي أظهرته قيادة حركة النهضة التونسية، أو ربما يعود الأمر لقراءتها الصحيحة لموازين القوى، كي لا نسرف في حسن الظن. في المحصلة هذا الأمر جنّب تونس مصير مصر والجزائر قبلها، لكن بالنتيجة النهائية، فشلت، أو أُفشلت، تجربة الإسلام السياسي في تونس أيضاً، بدلالة الدستور الذي صاغه الانقلاب حسب هواه، بشهادة معظم القوى السياسية التونسية، على اختلاف عقائدها. الطريف أن آخر المنتقدين هم الأشخاص الذين كلفهم "سعيد" بصياغة الدستور. قام الرجل بعد تسلمه المسودة المقترحة، بإجراء تعديلات تمنح رئيس الجمهورية صلاحيات إضافية، وتضعه فوق المحاسبة، كما أن إحدى المواد تعطيه الحق بالتمديد لنفسه!

من الواضح، ومن خلال العديد من التجارب، أن لا فائدة من انتصار لحظي راهن، تعقبه حتمية كارثية، تفرضها وتضبطها قوىً عالمية، قادرة ومتنفذة ضمن مؤسسات العسكر والأمن، في كل الدول التي تنشط في مجتمعاتها حركات الإسلام السياسي.

حين تعطي ذاتُ المقدمات في الظروف نفسها، ذاتَ النتائج، ألا يحقُّ للإنسان أن يتساءل بكل موضوعية، عن الدوافع التي تتحكم بسلوك قادة ومنظري حركات وأحزاب الإسلام السياسي. في هذه النقطة، يذهب البعض لحد اعتبارهم شركاء غير مباشرين، في الجرائم المرتكبة بحق بلدانهم، بل وبحق آلاف الشباب من كوادرهم.

لعلّ الرقم أصبح بمئات الآلاف، بين قتلى ومعتقلين ومعذبين، منذ انتشار ظاهرة تسييس الدين ومذهبة الأحزاب. عشرات الآلاف من شباب الإسلاميين، قضوا قتلاً واعتقالاً وإعداماً في سوريا، على يد نظام حافظ الأسد مطلع ثمانينات القرن الماضي. عشرات الآلاف ذهبوا ضحايا أفكار عدمية ومعارك كوكبية في أفغانستان، والصومال ونيجيريا واليمن وليبيا، نتيجة الولاء لمشاريع وأهداف رسمتها قوى عالمية لا دينية، مستثمرةً بقابلية عالية لخوض تلك المعارك لدى الإسلاميين. ظهور وممارسات "القاعدة"، خير دليل على ذلك.

لنذهب أبعد. ما الذي حققته حماس في غزة؟ وهنا نتحدث بعقل صرف بعيداً عن العواطف وفانتازيا حلف الممانعة. إن كان المعتقد الرباني هو روح هذه التيارات، فبأي شريعة أجازت حماس لنفسها التحالف مع نظام إيرانيٍّ، ثبت اشتراكه في ذبح مئات الآلاف من السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين. ذات السؤال يمكن طرحه على حزب الإصلاح اليمني حليف الحوثيين حالياً، وعلي عبد الله صالح فيما مضى.

هذا التحالف مع الاستبداد ليس حديث العهد بالنسبة لحركات الإسلام السياسي، بل إنه قديم ومتجذر. نجده في المغرب بين العرش والإخوان، وأكثر قدماً في السودان الذي تحالف فيه إخوان الترابي مع عسكر النميري ثم البشير

هذا التحالف مع الاستبداد ليس حديث العهد بالنسبة لحركات الإسلام السياسي، بل إنه قديم ومتجذر. نجده في المغرب بين العرش والإخوان، وأكثر قدماً في السودان الذي تحالف فيه إخوان الترابي مع عسكر النميري ثم البشير. ليغدو السؤال الأكثر إلحاحاً، هل الخيار، لدى التيارات الإسلامية، هو الوصول للسلطة وحسب؟ للتفرد بها في حالة التمكن، أو التحالف مع المستبد حين تنعدم تلك الإمكانية. تعتقدون أني استطردت كثيراً؟ ربما، لكني أزعم أن هذا العرض، لم يكن إلا لصياغة أسئلة أحاول بعقلي وقلبي حقيقةً، أن تكون نزيهة، بل وبعيدة عن كل اصطفاف وحكم مسبق: ما الجدوى، وإلى متى، ولصالح من؟

لعل الأرقام التي يَعتدُّ بها الإسلام السياسي خلال تجاربه الانتخابية، تحتاج من دعاته، مراجعةً عاقلة، صادقة مع الذات، في بلاد لا يجد الناخب فيها بديلاً سياسياً ناجزاً فيذهب باتجاه من يدّعون أنهم يمثلونه دينياً بمواجهة (الحكام الكفرة). ما الذي يبقى من "الاختيار الواعي الحرّ" حين يكون شعار حزبك آيةً من كتاب سماويّ مقدس، بمقتضاها يغدو المصوّتُ بالتأييد مؤمناً. ثم لتجعل ذات الآية، كل الخيارات الأخرى رجساً من الشيطان، ودعوةً لحكم الجاهلية بديلاً عن حكم الله: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حُكماً لقومٍ يوقنون". يا لهولِ عدد المرات التي قرأنا وسمعنا بها، هذه الآية خلال خطاب المكنات الانتخابية للحركات والأحزاب الإسلامية. ومن فشلٍ إلى فشل جديد، لم يتعلموا الدرس بعد.