حكايتي مع المجاهدين الأفغان - العرب

2020.12.15 | 23:03 دمشق

_4547_77.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان جدي "أبو صالح" رحمه الله، شيخ مؤذني قدسيا، بلا فخر، فعلاوةً على صوته الجميل الذي يصل طبقاتٍ لا يصلها أشهر المطربين، فقد كان الوحيد برفقة صديقه "أبو علي مِرزا"، ممن درسوا في شبابهم المقامات والسلم الموسيقي، على يد مؤذني الجامع الأموي في دمشق.

في العام 1993 باع جدي منزله في ساحة قدسيا، وانتقل للعيش بجوارنا، في ذات العام افُتتح مسجد "عمر بن عبد العزيز" في حيّنا، أكبر مساجد قدسيا، وعُهد إلى جدي إقامة الأذان وإمامة الصلوات فيه، فكان جدي المسؤول الكامل عن المسجد، يفتحه أوقات الصلاة ويغلقه بعد انتهائها، حسب تعليمات وزارة الأوقاف، والأجهزة الأمنية، وهذا ما دفعنا لتسميته "جامع جدي"؛ في صيف ذلك العام جاء إلى جامع جدي مجموعة من الشبان الغرباء، أغلبهم من دول المغرب العربي، كانوا طليقي اللحى، يرتدون ملابس غريبة: قبعات مدورة متعرجة الأطراف، جلابيب قصيرة، ألوانها داكنة، تعلوها معاطف بلا أكمام، وتحتها بناطيل قماش، يحملون متاعاً لا يتعدى بضع حقائب، واستوطنوا في جامع جدي..

كانوا غريبين بالكامل شكلاً، وهنداماً، وكلاماً، لكن معظمهم في الحقيقة كانوا لطفاء، ومبتسمين، يسمحون لنا نحن الأطفال بالجلوس معهم، ويتوددون إلينا ببعض حبات التمر؛ دعاهم جدي في أحد الأيام إلى وليمة غداء في منزله، وهناك قدموا له زجاجة "هريسة" كهدية، علمت يومها أن "الهريسة" ليست بالضرورة: حلوى.

من كان أولئك الرجال؟ وما الذي أتى بهم إلى سوريا؟ وكيف سُمح لهم بالإقامة في مسجدٍ، رغم أنه ممنوع أمنياً؟، ولماذا يرتدون هذه الأزياء؟ وكيف استطاعوا إبقاء اللحى؟، في حين لا يستطيع السوريون إعفاءها ميليمترات، ما عدا الرائد الفارس "باسل الأسد"، فالسوريون يومئذ كانوا لا يزالون يعيشون تبعات وأثار "عصر الإرهاب" المتوج بمجزرة حماة.

لم يطل مقام أولئك الغرباء، فقد اختفوا بصورةٍ غامضةٍ، كما حضروا، ما عدا رجلاً واحداً، اسمه "يحيى"، كما زعم، فقد بقي في قدسيا، وتعرض للاعتقال، ثم خرج وتزوج، وصار يعمل بالتجارة، ويتنقل بين سوريا وتونس، وكان لقائي الأخير به في العام 1997، في محل خالي في ساحة قدسيا، حيث كان "يحيى" حليق اللحية، حديث الهندام؛ والحقيقة أني لم أرتح له يوماً، فقد كان حاد المزاج، سيئ الخلق واللسان، وقد اختفى بعدها بشكلٍ نهائي، وما أرجحه أن "يحيى"، كان رجل مخابرات، نفذ مهماته، وانصرف.

حين كبرت عرفت من كان أولئك "الغرباء"، كانوا ممن يُعرفون باسم: المجاهدين العرب – الأفغان؛ وكان دخولهم إلى سوريا، لا في سبيل عودتهم إلى بلادهم، ولا من أجل الإقامة في حضن "الأسد"، بل كان مجيئهم في إطار صفقةٍ بين المخابرات السورية، وأجهزة المخابرات الأميركية، تمهيداً لنقل أولئك الشباب إلى جبهات قتالٍ جديدةٍ، وأعني بها الشيشان والبوسنة، فقد كانت تلك الجبهتان مهمتين جداً للولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا، لإضعاف روسيا، وإغراقها في الصراعات الداخلية – حرب الشيشان – والقضاء على ما بقي لها من نفوذٍ سياسيٍ، واقتصادي، في حديقتها الأمامية – البلقان – التي كانت جزءاً من منظمة "حلف وارسو"، و"منظومة الكوميكون"، والتي تربطها بروسيا – عدا الإرث الشيوعي السابق – روابط دينية (المذهب الأرثوذكسي)، وإثنية/ لغوية (العرق السلافي، واللغات السلافية).

من المعلوم أن الطائرات المدنية، تطير عبر مسارات تحددها منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO)، بالتعاون مع الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، هذا الأمر ينطبق تماماً على مسارات "الجهاديين"، وطرق انتقالهم وعبورهم؛ كان من الأسهل على العرب – الأفغان، مثلاً، الانتقال إلى الشيشان والبوسنة، عبر روسيا مباشرةً، أو عبر إيران مروراً بتركيا، لكن مجيئهم إلى سوريا "الأسد"، تحديداً، لم يكن عن عبث، هناك مسارات إلزامية نابعة من اتفاقات تعاون مخابراتية دولية، في حالتنا هذه، المخابرات السورية، والمخابرات الإيرانية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

هل ستكون هذه المرة الأولى، أو الوحيدة التي تتعاون فيها المخابرات السورية، وحليفتها الإيرانية، مع المخابرات الأميركية، والأوروبية، في سبيل "الجهاد"، أو استيلاد "الإرهاب"؟

معتقلو سجن عدرا "الأجانب":

في الجناح الثاني في سجن عدرا المركزي بدمشق، يقيم ما تبقى من المعتقلين الإسلاميين، الذين جرى نقلهم من سجن صيدنايا، بعد "الاستعصاء"، الذي قاموا به صيف العام 2008، رأيت بعيني أولئك المعتقلين في سجن عدرا العام 2015، وأغلبهم من غير السوريين، ولاحظت مدى الاهتمام، والمعاملة – اللائقة – التي يتمتعون بها، يحصلون على الزيارات الخاصة، مسموحٌ لهم بإدخال الطعام، والشراب، والدواء، والكتب، مسموحٌ لهم بإطلاق لحاهم، وإقامة صلوات الجماعة، لا يجبرون على ارتداء بزة السجن المعروفة باسم "الجزائية"، لا يجبرون على النزول أسبوعياً لصالون الحلاقة، والحمام الجماعي، ويحظون برعاية طبية خاصة، وتعامل فائق الاحترام من قبل عناصر الشرطة، في الوقت الذي كنا نعيش في سجن عدرا ظروفا أمنية، استثنائية، لا تكاد تختلف عن الظروف التي واجهناها في أقبية المخابرات.

بالتأكيد، لم تكن معاملة نظام الأسد لهؤلاء المعتقلين، نابعةً من احترامه لحقوق الإنسان، إنما مردها لخوفه منهم، ولكون هؤلاء السجناء – وهذا الأهم – يعتبرون "ودائع"، تحتفظ بهم المخابرات السورية لصالح الاستخبارات الأجنبية، ولا مانع بالطبع من إجراء بعض المقايضات بهم، وعبرهم، لتدعيم مكاسب النظام السياسية، ومواقفه المزعومة في مكافحة "الإرهاب".

وقائع وأسماء أخرى.. شاكر العبسي" و"أبو القعقاع":

يشترك الرجلان بشيءٍ واحدٍ: مخابرات الأسد؛ فالأول الذي كان عضواً في حركة فتح – الانتفاضة، التي أسستها المخابرات السورية، عام 1983، وسلمت قيادتها للعقيد "أبو موسى"، الذي سيخوض بتنظيمه الجديد معارك طاحنة ضد قوات "ياسر عرفات"، لا سيما في البقاع اللبناني، نيابة عن قوات الأسد، ستعتقله المخابرات السورية لاحقاً، ثم ستطلقه، وترسله ليؤسس تنظيم فتح – الإسلام، في مخيم "نهر البارد" في لبنان، ليخوض معارك مع الجيش اللبناني، بعد انسحاب الجيش السوري 2005، وبعد اجتياح حزب الله لبيروت في 7 أيار 2008، والهدف على ما بدا، تمرير رسالة للولايات المتحدة، وأوروبا، أن ملفات السياسة، والأمن اللبناني لا تزال في يد النظام.

أما "أبو القعقاع" فقد كان أحد أذرع المخابرات السورية، لتجنيد وإرسال "المجاهدين" للعراق، وتسليم معلوماتهم للاستخبارات الأميركية.

قد يكون "أبو محمد الجولاني"، و"أبو محمد العدناني" قد ذهبا للعراق عبر أحد "أبي القعقاعات" الآخرين، إن لم يكونا، كلٌ منهما "أبا قعقاعٍ" في ذاته.

بالمحصلة، اختفى "شاكر العبسي" ولم يُعرف مصيره، أما "أبو القعقاع" فقد جرت تصفيته بعد انتهاء مهمته، وافتضاح أمره.

"ماهر عرار" و"معتقلو السجن المركزي في الفرع: 285/ أمن دولة":

"ماهر عرار" مواطن كندي بريء من أصل سوري، جرى اعتقاله من قبل وكالة الاستخبارات المركزية، وترحيله من مطار "كينيدي"، إلى فرع فلسطين في دمشق عام 2002، لتعذيبه بهدف انتزاع اعترافات زائفة منه، وقضيته معروفةٌ إعلاميا؛ واللافت في الأمر أن التعاون المخابراتي/الجهادي، بين الولايات المتحدة، والنظام بشأن "عرار"، جرى في الوقت الذي كانت فيه إدارة الرئيس "بوش"، تستعد لفرض قانون "محاسبة سوريا"..!

في زنزانة جميلة، تحت الأرض، في السجن الغربي، في إدارة أمن الدولة، والتي تشرفت بدخولها، والإقامة فيها عارياً تماماً، أوائل شتاء العام 2015، أخبرني زميل من مدينة داريا، أن تحت زنزانتنا، يوجد ما يعرف بالسجن المركزي، ويتطلب الوصول إليه، نزول سلمٍ من ستين درجة، أخبرني زميلي ذاك، الذي تشرف بالاعتقال في السجن المركزي، بوجود معتقلين هناك، منذ ما قبل العام 2011، وبعضهم أجانب، لا يتكلمون العربية، أصلاً.

سألته: من يكونون؟، فأجاب: معتقلون إسلاميون.

تأكدت حينئذ، أنهم معتقلون لصالح الاستخبارات الغربية.      

"أبو الخير المصري" و"أبو الفرج المصري":

في إطار اتفاقية المدن الأربع العام 2015 – 2016، كان ضمن بنوده السرية، انتقال "أبو الخير المصري"، و"أبو الفرج المصري" المقيمين في إيران، إلى سوريا، مروراً باليمن، وبالفعل فقد وصل الرجلان إلى الشمال السوري، وكانا بجانب "الجولاني" في ظهوره العلني الأول، الذي أعلن فيه فك الارتباط بين جبهة النصرة وتنظيم القاعدة؛ وقد تم إعطاء إحداثيات أماكنهما في الشمال السوري، لتغتالهم طائرات التحالف لاحقاً، بعد انتهاء مهمتهما، وقبلها كانت ذات الطائرات، قد اغتالت قياديا عسكريا تونسيا، وصل حديثاً للشمال، أثناء اجتماعه بعدد من المقاتلين، كان من بينهم "أبو صطيف"، و"إسلام" من مهجري مدينة قدسيا، واللذان لقيا مصرعهما مع "التونسي" عام 2017.

ختاماً:

في الفترة التي أقام فيها "المجاهدون" الغرباء في قدسيا، تعرف إليهم رجلٌ دمشقيٌ، وأخذ عنهم الفكر السلفي، كانوا طيبي المعشر، رفيعي الخلق، لذا سَهُل تقبل الناس لهم، تحول "أبو رامي" الدمشقي لداعية سلفي، على مستوى محيطه الصغير في قدسيا، افتتح محلاً لبيع الخضار في ساحة المدينة، وكان مواظباً على الصلاة في الجامع العمري؛ كلفت المخابرات السورية الشيخ "محمد عدنان الأفيوني" وجماعته، بمراقبة نشاط "أبو رامي" ورفاقه، والتبليغ عنهم.

في العام 2011، كنت أرى "أبو رامي" بجلبابه "الباكستاني"، في كل المظاهرات السلمية في قدسيا، يمشي خلف الشباب الذين يرتدون بناطيل الجينز "السالت"، يردد هتافاتهم، ويشد أزرهم، وهو سعيدٌ، وبقي الشيخ "أبو رامي" محافظاً على سلميته.

في الخامس من تشرين الأول 2012، وفي اليوم الثاني للمعركة، سمح جيش النظام للمدنيين، بالخروج صباحاً من قدسيا والهامة، قبل استئناف الهجوم علينا، خرج "أبو رامي" برفقة ولده الوحيد مع المدنيين، ليلتحق بزوجته، وابنته في دمشق؛ عبرت الناس.. في حين اختفى "أبو رامي" وولده.

سأشاهد مع "عبيدة"، و"أبو أحمد"، بعد شهورٍ من المعركة، مقطع فيديو بثه التلفزيون السوري، لمن سماهم مسلحين، قتلوا في معركة قدسيا، كانت جثة الشيخ "أبو رامي" بينهم، مرميةً على الأرض، تبدو عليه آثار التعذيب، وقد تلقى رصاصاتٍ، في حفلة إعدامٍ ميدانيٍ..

بينما كان الشيخ "محمد عدنان الأفيوني" يشرب الشاي، مع ضباط القصر.