حفرة العقول القذرة

2022.05.05 | 06:59 دمشق

5842.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبيل أسبوعين من معركة ميسلون، لم يلحظ قارئ جريدة العاصمة السورية، التي أسسها وترأس تحريرها محب الدين الخطيب، منذ سقوط الحكم العثماني في سوريا، أن شيئاً غريباً يحدث في البلاد، فالابتهاج بإعلان المملكة السورية وتنصيب الأمير فيصل ملكاً، انعكس على الصفحات، نقاشاً ومتابعات لجلسات المؤتمر السوري، الذي بدأ يضع الأسس التشريعية والتنفيذية للدولة العتيدة.

وحده وزير الدفاع يوسف العظمة، أرسل للجريدة بلاغاً عاماً بتاريخ 15 تموز أعلن من خلاله تعطيل بعض جوانب الحياة المدنية، لصالح التمكن من الدفاع عن البلاد التي أرسل الجنرال غورو إلى مليكها إنذاره الشهير قبل يوم واحد، والذي طالبه فيه بقبول الانتداب الفرنسي، وتسريح الجيش السوري، والموافقة على احتلال القوات الفرنسية لمحطات سكك الحديد في رياق وحمص وحلب وحماة.

عادت الجريدة لإصدار عدد لاحق بتاريخ 19 تموز، تابعت فيه نشر وقائع جلسات المؤتمر السوري. لكنها اختفت خلال الأيام اللاحقة حتى 29 من نفس الشهر، حيث صدرت وعلى صفحاتها أسماء جديدة، وخطابات حكام آخرين.

القارئ الذي لا يعرف ماذا حدث خلال النصف الثاني من شهر تموز لعام 1920 في سوريا، سيشعر بأن ثمة فجوة ما، ظهرت فجأة في السياق، وأن ما كان يحكى عنه في منتصف الشهر لم يعد هو ذاته ما يجري في نهايته!

فإذا لم يكن مهتماً، فسيقلب الصفحات، ويتابع قراءة السجل الحكومي الذي استمر عمله حتى يومنا هذا، تحت اسم الجريدة الرسمية.

غير أن ذهابه إلى موقع المهتم سيحمّله أعباء البحث عن رئيس التحرير الذي صار مطلوباً لسلطات الانتداب، منذ دخول جيشها العاصمة دمشق، فهرب إلى القاهرة، حيث تابع من هناك عمله الصحفي، ونشر الأفكار السلفية، حتى وفاته في أواخر أيام عام 1969.

وفي الوقت ذاته، سيتكبد القارئ مشقة البحث عن أسباب تحول الجريدة من نصف أسبوعية، إلى شهرية، تُكتب نصف صفحاتها باللغة الفرنسية!

وإذا قرر الانهمام بالأمر، فسيدرك بعد مطالعة أعدادٍ أخرى أنَّ جريدة (العاصمة) تقدم له وجهاً ساكناً من وجوه التاريخ، وأن عليه أن يبحث في الوجوه الأخرى عن التفاصيل!

الأمر المهم بالنسبة لنا ونحن نتوقف عند هذا التفصيل العابر من تاريخ سوريا، هو تلك اللحظة التي يكتشف فيها القارئ وجودَ الفجوة، أي حدوث شيء ما، لكن الصفحات لا تشرحه!

القارئ الذي لا يعرف ماذا حدث خلال النصف الثاني من شهر تموز لعام 1920 في سوريا، سيشعر بأن ثمة فجوة ما، ظهرت فجأة في السياق، وأن ما كان يحكى عنه في منتصف الشهر لم يعد هو ذاته ما يجري في نهايته!

لقد قبل الأمير فيصل الإنذار، وحلّ الجيش بعد أن كانت الثكنات قد امتلأت بالمتطوعين من أجل الدفاع عن بلادهم، وغادر سوريا على عجل، لكن وزير الدفاع قرر ألا يسلّم البلد بسهولة لمغتصبيها، فواجه قواتهم مع مجموعة من المتطوعين، وقتل في أرض ميسلون التي يعرفها كل سوري قرأ تاريخه!

لقد شرحت صحف أخرى ما جرى، وكتب المؤرخون الحيثيات. لقد كان الوصول إلى المعرفة متاحاً رغم أن السلطات الجديدة لم تتسامح مع الدعاية المضادة لها، فقد طلبت من كل الصحف أن تخضع نفسها للرقابة الفرنسية، تحت طائلة الإغلاق.

لقد انتهت حكاية الانتداب بعد 26 سنة من ذلك التاريخ. وأخذت فرنسا لعندها مئات العائلات السورية، ممن ارتبطوا بالعمل معها، وأدركوا أنهم سيتلقون عقاباً عسيراً، في حال خضعوا للمساءلة والمحاسبة، عما فعلوه في أثناء وجودها.

لنتخيل أن واحداً ممن قرؤوا أعداد جريدة (العاصمة) الرسمية، كان مصاباً بمرض الإنكار، وقرر أن الواقع هو ما تقوله صفحاتها، وتابع حياته بناء على ذلك، وتصالح مع نفسه مسوّغاً لها أن تتماهى مع المحتلين، وأن تنكر أفعالهم القذرة، كالمجازر التي ارتكبوها طيلة فترة وجودهم، والكوارث التي صنعوها، وكان آخرها قصفهم لدمشق، وعدوانهم على البرلمان، وارتكابهم مذبحةً بحق حاميته من الشرطة، في يوم 29 لعام 1945.

هذا الشخص، سيبقى على موقفه غير المصدّق لما يروى عن أفعال الفرنسيين الشائنة، لا لسبب مرتبط بمصالحه، فهذه تتبدل، بل إنه يقوم بالإنكار لأنه مريض به، وإذا لم يعالجه أحد فسيبقى كما هو!

يتكرر موقف مشابه، بعد قرن وعامين من فجوة جريدة (العاصمة) التي سرعان ما ألغاها التاريخ من خلال تعبئتها بالتفاصيل المفقودة من سرده.

فقد ظهرت حفرة المجازر أمام مؤيدي الأسد الذين كانوا وما زالوا ينكرون طبيعته الإجرامية، وتكوينه المافيوي، وتحالفاته القذرة، مع القتلة والسرّاق، والمختلين الطائفيين.

إنها مختلفة هذه المرة عن فجوات الصفحات في الجرائد، فهي طافحة بالدماء والمآسي، وذات طبيعة واضحة، من دون ضبابيّة تشوّش على العيون، فلا تعرف الحدقات من القاتل ومن المقتول!

قال بعضهم جرياً على عادتهم، ومن دون اختلاف عن سلوكيات مرضى الإنكار بأن حفرة التضامن ككناية عن المجزرة غير صحيحة، وأنها مفبركة! وقد شاطرهم الرأي عشرات من حثالات الممانعجيّة، الذين لا يستحقون الالتفاتة، أمام قدسية دم الضحايا!

لكن بعضهم الآخر من خبثاء المؤيدين، وهم صحفيون وكتاب وفنانون، أرادوا أن يستريحوا من عناء وتبعات الموقف الأخلاقي فقالوا: إنها طبيعة الحرب!

وإذا أردنا مناقشة هؤلاء، فإننا سنذكّرهم بأن هذه الجريمة قد حدثت قبل تسع سنوات، كما حدث غيرها منذ بداية الثورة، وأن ثمة سوريين آخرين رأوا ما كان يجري وأعلنوا موقفاً رافضاً له، فتمّت إبادة وجودهم بالمعنى الحرفي للكلمة، قتلاً في الشوارع أو في المعتقلات! لقد قالوا للعالم كله إن هذا ما كان يحدث في سوريا، وكنتم تعرفون فعلياً به، لكنكم بقيتم صامتين!

أفراد هذه الحفنة القذرة من المشتغلين بتزوير الحقائق، ومنذ ذلك الوقت يعرفون أنها حرب، لكن الفرق بينهم وبين ذلك القارئ الساذج الذي لم يدر ماذا حدث في فجوة جريدة (العاصمة)، أنهم كانوا يملؤون حفرة المجزرة بما كانوا يستخدمونه من أسلحة التشكيك بالثائرين واتهامهم بالعمالة، والارتهان للأجندات الخارجية، وغير ذلك من ترّهات.

لقد ذهبت فرنسا بالمشاركين في تعبئة فجواتها، فإلى أين في النهاية سيذهب هؤلاء؟!