حزب الله يقرع طبول الحرب

2021.10.19 | 07:20 دمشق

p_3_lebanon-protests-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

شهدت بيروت في الأيام القليلة الماضية مشهداً يجسّد إلى حد بعيد، كيف ستكون المواجهة المقبلة بين بنية كبنية "حزب الله"، وبين مستحقات تطبيق معايير الحد الأدنى للدولة اللبنانية، بصيغة أخرى هل تتحمل بنية كـ "حزب الله" أن يكون في لبنان دولة بالمعنى الحقيقي للدولة، وكيف ستواجه هذه البنية "بنية حزب الله" محاولة اللبنانيين الانتقال من صيغة هيمنة الدويلة إلى صيغة الدولة؟

ما جرى في بيروت قبل عدة أيام، هو سيناريو مصغر من حرب أهلية قادمة، حرب مؤجلة، لكنّها، ووفق كل المعطيات الراهنة، تبدو السيناريو الوحيد القادم في ظل إصرار "حزب الله" على اعتبار اللبنانيين رعايا في دويلته المدججة بالسلاح، والتابعة بكل وضوح للولي الفقيه في إيران.

لم يحتمل "حزب الله" ومن يدورون في فلكه من اللبنانيين أن يقوم القاضي "طارق البيطار" بعمله، بشكل مهني محض، وأن يرفض إخضاع القضاء في لبنان إلى كواليس السياسة والصفقات، متجاهلاً التهديدات الصريحة، والترهيب الصفيق، لمنعه من مواصلة المهمة المكلف بها (التحقيق في قضية تفجير المرفأ في بيروت).

ما يقوم به "حزب الله" هو خياره الوحيد، مثله مثل نظام الأسد، والنظام الإيراني، والكوري الشمالي، وكل الأنظمة الشبيهة

لم يكتف "حزب الله" بتهديد القاضي علناً، بل صعّد إلى خطوة أخرى، فهدد بتعطيل الحكومة التي يعلم الجميع كم تعثّرت، وكم دفع اللبنانيون ثمن انتظارهم لها، وعندما لم يرضخ القاضي لتهديده، انتقل إلى ما هو أخطر، عبر الدفع بالسلاح إلى الشارع، في استعراض متعمد، أعاد إلى ذاكرة اللبنانيين مشاهد الحرب الأهلية اللبنانية، وأعاد إلى ذاكرة السوريين الشعار البغيض (الأسد أو نحرق البلد).

ما يقوم به "حزب الله" هو خياره الوحيد، مثله مثل نظام الأسد، والنظام الإيراني، والكوري الشمالي، وكل الأنظمة الشبيهة، فهذه البنى السياسية تتناقض بنيوياً مع معنى الدولة الحديثة، الدولة التي يتم فيها فصل السلطات، وتعتمد الأسس الديمقراطية في الوصول للحكم، وتحمي حرية الرأي والتعبير والإعلام الخ.

من يقرأ جيداً بنية "حزب الله"، وتبعيته الكاملة للمشروع الإيراني، ويقرأ المشروع الإيراني في المنطقة، سيصطدم بحقيقة أن الصراع المحتدم اليوم بين المشروع الإيراني وأدواته في المنطقة، لم يعد صراعاً سياسياً تقليدياً، حول المصالح والنفوذ فقط، بل تحوّل في جوهره إلى صراع في الوجود، وفي صيغ هذا الوجود وهويته.

في تصريح أطلقه وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن" مؤخراً، وطلب فيه من نظام الأسد "إحراز تقدم لا تراجع فيه"، نحو الحل السياسي عبر خطوات سياسية حقيقية، كمقدمة لإعادة النظر بالعلاقة معه، تفوح رائحة تواطؤ ضمني مع محاولات أطراف دولية وعربية لإعادة تعويم بشار الأسد، لأن الإدارة الأميركية، ومعها جهات كثيرة من المجتمع الدولي تدرك جيداً أن نظام الأسد لا يستطيع بأي حال أن يقدم على أي تقدم سياسي حقيقي، مثله مثل حزب الله، ومثل النظامين الكوري والإيراني، فهذه البنى القائمة أساساً على مفهوم الرعية والحاكم، لا يمكنها أن تعيش في صيغة أخرى، وأن أي إعادة لصيغة هذه البنية سيقود إلى انهيارها حتماً.

يقودنا هذا إلى استنتاج آخر أكثر سوداوية، وهو أن إعادة تمكين الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، وإعادة قدرتها على الإمساك بمصير شعوب هذه المنطقة، والتحكم بها بتواطؤ من النظام العالمي، سيزج شعوب هذه المنطقة بدوامة جديدة من المعاناة وانسداد الأفق، وسيكرس لمدة زمنية قد تمتد لعقود استنقاع هذه المنطقة في تخلفها، وفي انعدام الحدود الدنيا الضرورية لاستقرارها وتطورها.

الأخطر من هذا، إن إحباط هذه الشعوب، ومنعها من امتلاك حقوقها، وقرار مصيرها، قد يهيئ موضوعيا للذهاب إلى تفتيت هذه المنطقة، وإعادة ترتيب جغرافيتها وفق منظور جديد، تكون التصنيفات الدينية والإثنية والقومية هي ركيزته الأساسية، الأمر الذي سيؤسس لاحقاً لقيام كيانات هشة، تابعة ومنهوبة.

انفراط عقد هذه الدولة وذهابها إلى صيغة طائفية أكثر وضوحا وعمقا من الصيغة التي تحكم لبنان حالياً، سيكون احتمالاً مرجحاً

ثمة موقف آخر طرحه حزب الله في مواجهته للقاضي "البيطار"، لابدّ من التوقف ملياً عنده، وهو يعزز من فرضية الانتقال من الدولة إلى الطائفة، وهو الهتاف الذي تم إطلاقه في الشارع اللبناني، وهو "شيعة ..شيعة"، أي أن الحزب الذي يريد كف يد القاضي عن إكمال مهمته في التحقيق القضائي حول انفجار مرفأ بيروت، والتي بات من المرجح - إن لم يكن من المؤكد - أن هذه التحقيقات ستتهمه، جعل من هدفه طمس نتائج تحقيق "جنائي" شعاراً سياسياً، رفعته قوى سياسية تحت راية الطائفة، الأمر الذي يعني أنه لم يعد هناك في الدولة اللبنانية ما هو لبناني صرف، وأنه ما من أمر عام سيتم نقاشه هو خارج التصنيف الطائفي العلني، حتى القضاء، وغداً ربما مؤسسة الجيش، أي أن الفضاء السياسي و الدولة ومؤسساتها لم يعد لها – ولو ظاهراً- أي قيمة خارج لعبة الطوائف، وبالتالي فإن انفراط عقد هذه الدولة وذهابها إلى صيغة طائفية أكثر وضوحا وعمقا من الصيغة التي تحكم لبنان حالياً، سيكون احتمالاً مرجحاً.

هل تُزج المنطقة بكاملها في لعبة الكيانات الطائفية أو الدينية، وهل استبقاء الطغاة، وإعادة تدويرهم، ووأد الثورات العربية هو ضرورة لدفع هذه الشعوب إلى حالة من اليأس، تسهّل زج هذه المنطقة في "شرق أوسط جديد"، شرق أوسط بدول ذات هويات دينية، ينسجم مع سعي "إسرائيل" لترسيخ وجودها كدولة دينية، مع ما يترتب على هذه التسمية من إعادة النظر بالوجود الفلسطيني (المسلم والمسيحي) فيها؟

من المؤلم القول إن هذا السيناريو البالغ الخطورة لا يجد من يحاول منعه، وإذا كانت الأنظمة، والقوى العسكرية هي أداة هذا السيناريو، فأين هم المفكرون والمثقفون والساسة، وأين هي الأحزاب والقوى، ولماذا تبقى الشعوب هي الغائب الأكبر عن كل هذه الاحتمالات الكارثية، والتي تهدد إلى حد كبير وجودها ووجود هذه المنطقة؟