حرية الصحافة وتوبيخ الرئيس

2020.09.08 | 00:00 دمشق

2464303-sbzhg.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مشهد غير مألوف، عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بصوت متهدّج وقسمات غاضبة لم يتمكن القناع الصحي من إخفائها، عن امتعاضه الشديد من أداء جورج مالبرونو، أحد "أشهر" الصحفيين الفرنسيين العاملين على قضايا الشرق الأوسط، ومحرر شؤون الشرق الأوسط في صحيفة اليمين الفرنسي لو فيغارو، والذي كان ضمن الوفد الإعلامي الرئاسي الذي رافق ماكرون أثناء زيارته الأخيرة الى العاصمة اللبنانية بيروت. وقد تم التعبير عن هذا الغضب على الهواء مباشرة وأمام عدسات الإعلام. وقد أثار "صدق" غضب الرئيس وعنفه اللفظي، ردود فعل عديدة في الوسط الإعلامي الفرنسي تراوحت بين من تفهّم موقفه وبين من ندّد به. فما الذي أخرج رئيس جمهورية فرنسا عن طوره؟

جورج مالبرونو صحفي عتيق في مهنته دون أن يُكسبه هذا كثيرا من المصداقية كونه يميل في كثير من تغطياته لإيراد نصف الحقيقة أو يتخلى عنها تقريباً إن استدعت ظروف المكان ذلك. كما تلعب الحاجة للعودة إلى هذا المكان ومقابلة المسؤولين فيه لاحقاً وصنع "السبق الصحفي"، دوراً في تعديل ما تبقى من هذه الحقيقة الضحية. ويتميز هذا الصحفي بدراية لا بأس بها بتاريخ وحاضر المنطقة، كما أنه يتقن نسبياً لغتها بلهجاتها المشرقية. وهو على معرفة بشخوصها السياسية والاقتصادية، كما يعرف كيف يتقرب من شخصياتها المفتاحية، أي الشخصيات الأمنية، والتي تؤمن له مصدراً هاماً لأخباره وخصوصاً المثير منها. وفي الملفات الأمنية، يتميّز هذا الصحفي بازدواجية العلاقات حيث يحافظ على صلات صلبة بأجهزة غربية وخصوصاً فرنسية، كما يتقرب من أجهزة عربية ليست السورية إلا إحداها. كما يحلو له إن لزم الأمر أحياناً أن يخترع قصة لا يمكن لأحد أن يتأكد من صحتها إلا هو وبالتالي يكسب "نقاطاً" على حساب زملاء المهنة بالاستناد إلى مصادر ربما تكون غالباً وهمية أو تسريبات من أجهزة ترغب في إثارة الضجيج حول تفصيل بعينه في قضية بعينها. وأخيراً، تشهد كتبه الأخيرة بقدرته أيضاً على كتابة مئات الصفحات الموصى عليها من جهات بعينها والتي يمكن وصفها بالفرنسية بـ "القوقعة الفارغة" مع اختيار عناوين مبهرة لها تساعده في عملية تسويقها دون أن يكسب قراؤها أية معلومة أو يحسنوا من قدراتهم التحليلية أو المعرفية، إن هم وقعوا طبعاً في فخ اقتنائها.

ومن المؤكد بأنه تعرَّض لتجربة مرّة ومؤلمة من المفترض نظرياً أنها أثّرت في عمق شخصيته، إذ تم اختطافه في العراق، مع زميل له، في العشرين من آب سنة 2004 من قبل "الجيش الإسلامي في العراق" وهو من صنف الجماعات الإسلامية المقرّبة أو المدرّبة من قبل بعض الأجهزة السورية أثناء انغماسها في تأجيج المقاومة القاعدية في العراق ضد الوجود الأميركي بعد الاحتلال سنة 2003. وقد أفرج عنهما بعد 124 يوماً من الاختطاف وتم تسليمهما إلى دمشق حيث خرجا بمؤتمر صحفي لشكر السلطات السورية على جهودها في تحريرهم كما جرت عليه العادة خلال تلكم السنوات. وحسب ما أوردته صحيفة التايمز اللندنية، فيبدو بأن الدولة الفرنسية قد دفعت مبلغاً باهظاً كفدية للخاطفين و"مشرفيهم" للإفراج عنهما. 

منذ تلك التجربة و"مساهمة" دمشق في إطلاق سراحه، كثرت زياراته للعاصمة السورية ولقاء مسؤوليها. ومن المعروف بأن زيارة سوريا للصحفيين الغربيين تكون شديدة التأطير ويكون من الضروري أن يحظى الصحفي برضا السلطات الأمنوـ إعلامية حتى يُسمح له بالتجول أو بلقاء من ترغب هذه السلطات بأن يلتقيه. وكان مالبرونو يُجاهر بعلاقاته مع رؤساء أجهزة أمنية ورجال أعمال من المحيط الضيق المقرب من قصر الرئاسة. ولم يشعر البتة بأن هذه المجاهرة يمكن لها أن تضع مصداقيته موضع شك، بل كان يدافع عن ذلك بقدرته على الحصول على معلومات سرية لا يمكن لسواه الوصول إليها. وقد وصل فيه التقرّب من السلطات أنه قال في إحدى الجلسات بأن سيارة المسؤول الأمني تأتي إلى درج الطائرة لاصطحابه. وقد انتجت هذه العلاقات "الحميمة" مقالات ومقابلات كانت في غالبها تدافع عن وجهة نظر النظام فيما يتعلق بأحداث الثورة السورية، أو وفي أحسن الأحوال، البقاء صامتاً أمام هول المذابح التي لم يتوقف زملاء المهنة في الصحيفتين الفرنسيتين اللوموند والليبراسيون بالكتابة عنها أو بفضح مرتكبيها. وقد توّج هذا الدور بإجراء تحقيق سريع حول مقتل الصحفي الفرنسي جيل جاكييه في حمص أثناء معاركها في الشهر الأول من عام 2012، ليتهم المعارضة السورية باقتراف هذه الجريمة، علماً بأن مختلف التحقيقات التي أجرتها الصحافة الفرنسية كما السلطات الفرنسية وعائلة الضحية ومن كان معه من صحفيين تشير ودون آية مواربة إلى مسؤولية النظام المباشرة عن مقتله. وأن العملية كانت مقصودة ومخططا لها. وقد تعرض مالبرونو بعد نشر هذا التحقيق للكثير من الانتقادات التي تناولت مناقبيته المهنية في فرنسا.

مالبرونو هذا نشر تسريبات بخصوص لقاءات جانبية للرئيس ماكرون في بيروت كما بخصوص ما ورد في حديث مغلق وسري يتعلّق بعقوبات يزمع الرئيس الفرنسي فرضها على شخصيات لبنانية في حال تأخرت عملية الإصلاح الموعودة. وعلى الرغم من ميل الأسلوب إلى التسريبات الأمنية التي تترجم منافسات بين أجهزة متعددة، وعلى الرغم من احتمال كون هذه المعلومات قد بولغ في سردها وضُخّم محتواها، إلا أن نشرها يُعتبر قانوناً من حق الصحفي وعليه إثبات مصداقيتها إن هو تعرّض للمساءلة القانونية دون الكشف عن المصدر. وفي حالة واحدة فقط لا يمكن له أن ينشرها وهي إن تم الحديث عنها في جلسة يقول المسؤول للصحفيين فيها أنها ليست للنشر. ومن خلال هذه المكاشفة، يسعى السياسيون إلى أن يزرعوا الثقة مع الإعلاميين المقربين منهم كما أنهم يزودونهم ببعض المعلومات السرية غير قابلة للنشر ولكنها قد تفيدهم في توسيع مداركهم وإثراء تحليلاتهم.

لشدة ما حفل تاريخ هذا الصحفي بالأقاصيص الأمنية غير الموثّقة، ولكثرة ما أورده من أخبار سريعة الاستنتاج تسعى للإثارة أكثر من سعيها للإخبار، ولتنوّع علاقاته غير المهنية مع أجهزة لا يتسم عملها باحترام الحريات، صار من الصعب على أبناء مهنته أن يتضامنوا معه، فما بالنا بمن كانوا "ضحايا" مناوراته الإعلامية؟