حرف القاف هُويّتي

2020.04.06 | 00:18 دمشق

hqdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

الكثير من الأفكار والجمل الواردة في هذا المقال أقتبسه من حوار دار، منذ زمن، بيني وبين الصديقة خولة دنيا بخصوص منشور لها عن حرف القاف ودلالته الرمزية، ما أعاده اليوم إلى ذاكرتي وجعلني أبحث عنه في ملفاتي هو ظاهرة إنشاء المجموعات الفيسبوكية المختصّة باللهجات المحلية السورية.

أطلق مُنشئو هذه المجموعات اسم قواميس، فعلى سبيل المثال لا التخصيص نجد (قاموس الشوام) و(قاموس الحماصنة حومص) و(قاموس حوران) و(قاموس بني معروف) و(قاموس السلامنة). ولست هنا في وارد شرح موقفي من هذه الظاهرة مع أو ضد، فإذا كانت هذه القواميس لن تثيرَ حسّاً مناطقياً يسمح بالتطبيع، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع من تلوثت يداه بالدم السوري من جميع الأطراف فلا مانع عندي. وهنا أودّ التأكيد على عبارة جميع الأطراف لأشير إلى أنّه في ظل المقتلة السورية التي ما زلت تُرخي بظلالها على الشعب السوري تتوزع المسؤولية بين عدّة أطراف وإن كان، بالنسبة لي، النظام هو المسؤول الأكبر.

وبالطبع لا أعتبر أن الحديث عن اللهجات المحلية والاستغراق فيها ملمحاً من ملامح التفكك على المستوى الوطني، بالعكس لطالما كان التنوع والتعدّد، في كل شيء، مصدراً من مصادر الغنى والثراء وشرطاً من شروط التقدّم في جميع مناحي الحياة.

قواميس اللهجات المحليّة أو "قواميس العزلة السورية" كما أطلق عليها الصديق علي سفر ذكّرتني بلهجتي وبعلاقتي الإشكالية مع حرف القاف التي عانيت منها في الفترة التي عشت فيها في دمشق وعادت للظهور مؤخرًا منذ بداية عملي في معهد الدوحة للدراسات العليا بعد 20 سنة من الغربة في فرنسا.

في طفولتي وشبابي المبكّر لم أكن أعلم أنّ لحرف القاف الذي ألفظه مفخّمًا مشدّدًا وبطريقة مجهورة، وأخرجه، بكل ما أعطيت، من اللهاة كما يجب، تصوّراً ذهنياً مجتمعياً ودلالة رمزية مرتبطَين به، فقد كنت أعيش في مجتمعٍ قرويٍ سلمونيٍ يغلب عليه التجانس حدّ التطابق، فلا وجود للاختلاف فيه.

أوّل مرّة أذهب فيها إلى دمشـــق، وكان عمري حينها 19 سنة، عرفتُ ماذا يعني حرف القاف، ففي كل مرّة كنت أتحدّث بها وأنطق هذا الحرف كنت أرى الخوف والحذر في عيون الناس، وهم في ذلك محقّون. فحرف القاف في سوريا مرتبط بالاستبداد والقهر، بالهيمنة والسيطرة، بالتعذيب وفروع الأمن، بالتزوير والغش وتمشية الأحوال في كل موقف يحتاج للانتهازية، إنّه صوت الجلّاد وسوطه وأداة الاستبداد في مجتمع محكوم بالاستبداد.

وبالرغم من أنّه الأكثر انتشاراً في مناطق متعدّدة ومتنوّعة من سوريا وهي اليوم متقاتلة يسيل فيها الدم، فقد اكتسب دلالة طائفيّة واحدة في المتخيّل السوري، وهذا طبيعي فالمتخيّل غالبا ما يُدرَك

لعنة الحرف الحادي والعشرين من حروف الهجاء العربية بقيت ترافقني مذ وعيتُ وأدركت دلالته السياسية المجتمعيّة

بوصفه مختلفًا عن الواقعي. ولكن المتخيّل يكون أحيانًا مخيالياً مرتبطاً بالمعتقدات والتمثّلات الاجتماعية ويرتكز على أدوات واقعيّة ويُبنى من خلال علاقات اجتماعية واقعية فيتمّ التعامل معه على أساس أنّه واقع أكثر من الواقع نفسه، إنّه واقع الرموز، وهنا تكمن لعنة حرف القاف التي أعاني منها.

لعنة الحرف الحادي والعشرين من حروف الهجاء العربية بقيت ترافقني مذ وعيتُ وأدركت دلالته السياسية المجتمعيّة، وازدادت هذه اللعنة حدةً منذ انتفاضة الشعب السوري في وجه الاستبداد والطغيان ومنذ أن قُمع وهجّر الشعب وعُفّش الوطن بأكمله بعد أنّ اختُصر بحرف القاف.

وبالرغم من وضوحه الصارخ ورمزيّته التي لا تخفى على كل من عاش في سوريا أو لبنان، يبقى لهذا الحرف مكانة خاصة في قلبي. فهو حرف الضيعة، حرف القرويين والمحافظات النائية، حرف البساطة والوضوح، حرف التنور وشجر الزيتون والأرض، وحرف العمال المهاجرين إلى المدن الكبيرة ليجدوا لقمة العيش. هو حرف المقهورين والبيوت الفقيرة في دمشق، حيث لا هواء يغسل الرئة التعبة من دخان المصانع والسيارات.

لحرف القاف هوية من نوع مختلف، هو حرف الاندماج والتعارف والبيئة الريفية المختلطة التي جمعتنا فأثّرنا على بعضنا بعضاً لنتغير ونصبح أكثر شبهاً، هو حرف الميجانا والعتابا والسهرات، وربما هوية مستقبلية للغة عربية تصبح أكثر بروزاً ودلالة على مزيد من التمازج والتعرّف إلى الآخر، لكنها لا تستغني في تطورها هذا عن القاف الجميلة.

ولكنه أيضًا، أي حرف القاف، حرف العنجهيّة والسُلطة ومن امتهن التعذيب والقهر، فالتصق به وأخذ من هويته، لدرجة أصبحنا نكره ذكره. هذا الحرف ذو ماضٍ جميل طويل وتاريخ قمعي قصير، هو الأنا حين يتصارع العقل مع الغرائز أمام محكمة الأخلاق، هو الفصام بحدّ ذاته.

في 18 كانون الأول يوم اللغة العربيّة، كتبت على صفحتها الفيسبوك إحدى من عاشت تجربة الاعتقال في سجون النظام الســــوري: "قلتُ للنساءِ في المعتقل ذاتَ يومٍ؛ سأدمّرُ حرفَ القاف، سأنفيهِ من ‏معاجمِ اللغة، وسألعنُهُ لعنةً أبديّة،‏ لا تسامحوني".

لحرف القاف جمالية لفظية وصوته يسم العربية بنفس ما يسمها به صوت الضاد من خصوصية،

هل يمكن للسوري أن يُفكّر في حرف القاف دون حامله الرمزي؟ حرف القاف هُويّتي فأعيدوا لهذا الحرف أصالته وليسقط الاستبداد.

كلمات مفتاحية