حرب حلب الباردة بين الثوار وداعش - 2013

2020.08.18 | 00:16 دمشق

syria_aleppo_wide-6d0c0e05b9c965143f2d73471ec83bbbb4eb0027.jpg
+A
حجم الخط
-A

في النصف الثاني من عام 2013 كان تنظيم داعش يحكم سيطرته على مدينة حلب تدريجياً، بحواجزه المنتشرة على مدخل المدينة وبين أحيائها الرئيسية المحررة، وبمحكمته التي لم يكن يقبل التنظيم أن يُحاكم أي من منسوبيه في غيرها، والتي كانت تتحرك لأخذ دور الهيئة الشرعية في المدينة كجهة قضائية مركزية، وبتغول التنظيم على المؤسسات المدنية والخدمية في حلب، فلم يكونوا يتوانون عن الاستيلاء على آلية أو مقر يريدونه، مع إحجام تشكيلات المدينة العسكرية عن أي فعل رادع تجاههم، واكتفائها غالباً بإحالة القضايا الشبيهة إلى لجان شرعية "مستقلة" للبت فيها، والتي كان التنظيم يشارك فيها من طرفه كأسلوب مماطلة لا أكثر، في انتظار إحكام سيطرته على المدينة كلياً.

 

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "تكتيكات داعش لحكم حلب - 2013

 

كانت فكرة مواجهة التنظيم عسكرياً تبدو بعيدة عن الذهنية العامة للفصائل في المدينة، مع مستوى الاختراق للتشكيلات العسكرية المختلفة فيها من قبل التنظيم، إضافة إلى نجاح مساعي الدعاية المنظمة لنهج السلفية الجهادية في المناطق المحررة، في إحجام القادة والمقاتلين عموماً عن قتال أي من الجماعات الجهادية إما تورعاً عن سفك الدماء، أو ابتعاداً عن المعادلة التي رسختها هذه الدعاية في أذهان الجميع بأن مشروع "الجهاد" مستهدف، وأن الدول الغربية -والعربية- تسعى لتمويل تشكيلات لاستهداف الفصائل المجاهدة، مستحضرة نموذج "الصحوات" في العراق الذي كان مذموماً لدى البيئة المجتمعية السورية ما قبل الثورة، بسبب ارتباطه بتحالف مع محتل ضد مقاومة، فباتت فكرة "قتال التنظيمات الجهادية" لأي سبب من الأسباب، تعني لدى عموم المقاتلين في المناطق المحررة خيانة للثورة وارتهاناً للدعم المشروط، الأمر الذي كان يعني بالنسبة للقادة -حتى المقتنعين منهم بوجوب التحرك عسكرياً ضد التنظيم- يشكل صعوبة بالغة في طرح هذه الفكرة داخل تشكيلاتهم، خارج دوائر ضيقة كان يصعب معها اتخاذ قرار مواجهة شبيه داخل هذه التشكيلات.

آنذاك -في النصف الثاني لعام 2013- كانت ينتشر في حلب عدد من التشكيلات العسكرية التابعة للجيش السوري الحر أكبرها لواء التوحيد، الذي كان الفصيل الأساسي الذي دخل مدينة حلب في يوليو \ تموز عام 2012، إضافة إلى عدد من التشكيلات الأخرى مثل لواء الفتح ولواء أحرار سوريا وكتائب نور الدين الزنكي، وهذه التشكيلات ينتمي معظم مقاتليها إلى أرياف حلب، إضافة إلى تجمع فاستقم كما أمرت الذي شكل أكبر تجمع عسكري لأبناء المدينة وقاطنيها، مع وجود عدد من التشكيلات ذات الطابع السلفي الجهادي غير المنتسبة للجيش الحر، كان أبرزها حركة أحرار الشام الإسلامية وحركة فجر الشام، إضافة إلى وجود محدود لجبهة النصرة بعد سيطرة تنظيم داعش على معظم مقدراتها في المدينة.

 

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "صعود أبناء مدينة حلب على خريطة فصائلها 2013

 

بالنسبة لتجمع فاستقم الذي كان يبلغ عدد مقاتليه آنذاك 800 مقاتل، فقد كان واضحاً أن التنظيم يتحرك لإطباق سيطرته على مدينة حلب ككل المناطق المحررة، وأن المواجهة مع التنظيم في النهاية حتمية، لكن وبحسب ظروف الواقع الميداني في المدينة آنذاك فقد كان من المستحيل لأي تشكيل -حتى من الفصائل الكبيرة- أن يبادر التنظيم بمواجهة عسكرية، بل ولا أن يتجاوب مع استفزازات التنظيم برد عسكري، لكون الأخير قد تمكن من فرض سطوته على المدينة، وبات يتحرك لاجتثاث بعض المجموعات العسكرية الأصغر حجماً في المدينة بتهم مختلفة، لذلك عمد التجمع بعد اجتماع لقيادته العامة إلى تنفيذ خطة تحضيرية للمواجهة التي كانوا يرونها قريبة جداً.

فعمد التجمع بداية إلى "شراء الوقت" خشية أن يبادر التنظيم لاجتثاثهم ضمن حملته العسكرية آنذاك، ريثما تتغير الظروف الميدانية في المدينة، وقد كانت خطتهم لذلك تتلخص بأن ينتظروا أي مشكلة بسيطة مع التنظيم لتضخيمها باستعراض قوة أمامه يدفعه لتأجيل ضرب التجمع -في حال كان يخطط التنظيم لذلك- بحيث يخشى من استنزاف قوة لا داعي له في الوقت الراهن.

وكان للتجمع ما أراد عندما أرسل التنظيم عنصراً إلى كراج جسر الحج الذي كان التجمع قد أشرف على تنظيمه سابقاً، بهدف تسجيل أعداد سيارات النقل التي تتحرك منه وإليه، فما كان من التجمع إلا افتعال مشكلة مع العنصر الذي طلب مؤازرة تنظيمه، بينما قام التجمع يومها بحشد معظم مقاتليه -الذين لم يكن أغلبهم يعرف سبب احتشادهم- بعتادهم الكامل عند الجسر، لتفاجأ مؤازرة التنظيم الصغيرة بالعدد الكبير المحتشد، ويقرر التنظيم إرسال لجنة شرعية وأمنية "لحل الخلاف"، تم فيها الاتفاق على أن المنطقة التي يوجد فيها التجمع تخضع لسيطرته وحده، وبهذا تمكن التجمع من إبعاد شبح معركة اجتثاث قريبة ضده.

ثم كانت الخطوة التالية للتجمع باختراق التنظيم من خلال أحد الأمنيين العاملين معه، والذي كان ينقل للتجمع كثيراً من تحركات التنظيم القادمة ضده، وبهذا تمكن التجمع من الحفاظ على المنطقة التي ينتشر فيها (المنطقة الغربية من الأحياء المحررة الممتدة بين دوار جسر الحج وجبهات أحياء صلاح الدين والإذاعة)، خالية من أي وجود رسمي للتنظيم على شكل مقر عسكري، فكلما أراد التنظيم افتتاح مقر له في هذه المنطقة، كان التجمع يبادر قبل ذلك لإرسال مجموعة تجعل من المقر المحتمل للتنظيم مقراً لها، فإن سبق التنظيم إلى ذلك يقومون بافتتاح مقر آخر قرب مقر التنظيم ووضع حواجز في محيط مقرهم، بما يحد من حركة التنظيم عسكرياً وأمنياً في المنطقة، وهو ما جعل هذه المنطقة تعتبر الملاذ الأكثر أمناً بالنسبة لناشطي المدينة الذين كان التنظيم يلاحقهم بغية اعتقالهم، لكن ذلك لا يعني أن التنظيم كان عاجزاً كلياً عن تنفيذ عمليات أمنية في هذه المنطقة، حيث تمكن بالفعل من تنفيذ عدد من عمليات الاعتقال والاختطاف فيها، لكن بصورة محدودة لا تشبه حرية الحركة للتنظيم في بقية الأحياء المحررة.

كما عمل التجمع على مراقبة كل منسوبي التنظيم القاطنين في منطقتهم "المنطقة الغربية"، فأصبح لديهم آنذاك قائمة ضمت أكثر من 60 شخصاً في هذه المنطقة، سيصبحون مستقبلاً أسرى التنظيم لدى التجمع عند اندلاع المواجهات ضده.

لكن أهم ما عمل عليه التجمع آنذاك كان الجهد التوعوي والتوجيهي داخل كتائبه، فتم وضع خطة غير مباشرة لتبيان خطر التنظيم على مشروع الثورة، وكذب ادعاء التنظيم بأنه "ممثل الجهاد ودولة الإسلام الموعودة"، وتعمد عدد من قادة التجمع استضافة شرعيين للتنظيم في نقاشات "ودية" أقرب لمناظرات في مقراتهم أمام قيادات كتائبهم، حتى يتضح لهؤلاء زيف ادعاءات التنظيم وجهلهم حتى بدينهم على عكس ما يدعون، وبناء على هذا الجهد وضعت قائمة بالكتائب والأفراد المحتمل استعدادهم لمواجهة التنظيم عسكرياً، في مقابل أولئك الرافضين لمواجهة شبيهة، لتكون هذه القوائم الأفضلية التي امتلكها التجمع في المعركة التي ستدور رحاها في المدينة وكامل الشمال السوري مطلع العام 2014.

والحقيقة أن التجمع استفاد كثيراً آنذاك من كونه تشكيلاً صغيراً نسبياً، الأمر الذي جعل اهتمام التنظيم ينصب بشكل أكبر بكثير على التشكيلات الكبرى في المدينة، غاضاً الطرف عن تحركات التجمع في منطقته المحشورة في آخر الأحياء المحررة بالنسبة لمنافذ المدينة على الريف المحرر، معتبراً -كما يبدو- أن إنهاء التجمع تحصيل حاصل بعد الفصائل الكبرى.

هذه الإجراءات التي عمل عليها التجمع بجدية لأشهر طوال النصف الثاني لعام 2013، ربما كانت عاملاً حاسماً في المعركة التي شهدها الشمال السوري لتحريره من نفوذ تنظيم داعش، والصدمة الكبرى التي فوجئ بها التنظيم في حلب، لكنها بكل تأكيد كانت عاملاً مؤثراً سمح للتجمع بالصمود والحفاظ على كتلته متماسكة.. بل وقابلة للتضخم عدداً ونفوذاً مستقبلاً..

لكن هذه قصة أخرى..