حديث ثقافي.. بصحبة عقاب يحيى

2021.07.10 | 06:07 دمشق

maxresdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

سأحاول في هذا الحديث تناول شخصية الأستاذ عقاب يحيى أبي أيهم، (الذي توفي في إسطنبول الإثنين الماضي، الخامس من تموز 2021، بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان) دون الخوض في الجانب السياسي الذي تم إشباعه في الحوار الذي أجراه معه الصحفي شعبان عبود، ضمن برنامج الذاكرة السياسية، وعُرض على تلفزيون سوريا. عقاب يحيى "بإيجاز" من أوائل البعثيين الذين رفضوا انقلاب حافظ الأسد، وكلفه ذلك كثيرا من الهرب والإرهاق والمنافي.

عرفت الأستاذ عقاب شخصياً حينما كنت عضواً في الائتلاف، بين سنة 2014 وأواخر سنة 2016.. وعلى الرغم من أنه يكبرني ببضع سنوات فقد نشأت بيننا صداقة قوية، استمرت بعد استقالتي من الائتلاف، دون توقف.. وكان المرحوم الأستاذ منصور الأتاسي في تلك الأيام يسعى لترسيخ تقليد (سوري – إسطنبولي)، بأن نلتقي، نحن المُهَجَّرين من بلدنا، كل يوم خميس، في مقهى شعبي بالقرب من ساحة تقسيم، وكنا نحضر ذلك اللقاء بانتظام، وحضر معنا "أبو أيهم- عقاب" مرات قليلة، ولكنه انقطع بسبب بُعد المكان عن مكان إقامته في "آغا أوغلو"، والألم الذي يتركز في إحدى ساقيه إذا مشى مشاوير طويلة.

عقاب رجل جدي، مستعد لأن يُجيب عن أي سؤال يُطرح عليه، أو يخوض في أي نقاش يفتح أمامه، من دون تردد، ويستمر فيه للنهاية، وبنفس الوتيرة من الجِد.. ولكنه في أحد جوانب شخصيته، ميال إلى الضحك والمرح. ذات مرة كنا نمشي على رصيف "إمينونو"، في طريقنا لركوب السفينة إلى "أوسكودار"، وشاهدنا بائع عرانيس ذرة مشوية على عربة صغيرة. ضحك أبو أيهم وقال لي:

- بشتري لك عرنوس؟

قلت: أنا ما باكله، بشتري لك واحد إلك؟

وحينما لاحظ أنني توقفت، سحبني من يدي وقال لي إنه يمزح، فالولد في القرى البعيدة، حينما يرافق أباه إلى المدينة، كلما رأى شيئاً يُؤكل يقول له:

- أبي. اشتري لي مشبّك.. اشتري لي عوامة.. إلخ.

وروى لي حكاية تراجيكوميدية جرت معه قبل أيام، حينما كان مغادراً مقر الائتلاف في سيارة صديقنا المشترك ماجد حمصي، ورأى بائع كعك، فطلب منه أن يتوقف ليشتري كعكة، وبعد أن اشتراها وأكل منها قطعة، علقت سمسمة في حلقه (تشردق)، وكاد أن يختنق. وعلق قائلاً:

- الله وكيلك يا أبو مرداس كنا وَدَّعْنا!

في ذاكرة أبي أيهم حكايات هزلية كثيرة، روى لي إحداها في مقر الائتلاف ذات يوم، عن معلم بعثي كان يعلم في مدرسة نائية أيام الوحدة مع مصر. وكنتُ في تلك الآونة أعد كتابي "كوميديا الاستبداد"، فتشبثت به وطلبت منه أن يصوغها على هيئة مسرودة قصصية قصيرة، لأتمكن من ضمها للكتاب، فهي شاهد قوي على بداية اختراع البعثيين والناصريين كتابةَ التقارير الأمنية والتعذيب.

كان أبو أيهم من الكتاب الذين يكتبون بسهولة وبسرعة استثنائية، ولكن لديه مشكلة كبيرة، هي أنه لا يحب المراجعة والتدقيق. فالقصة التي طلبتها منه وعنوانها "البعثي الشريف" يزيد حجمها على 1000 كلمة، كتبها فور وصوله إلى المنزل خلال ساعة، وأرسلها إليّ بالإيميل في اليوم نفسه. وأذكر أننا، الصديق موفق نيربية وأنا، عرضنا عليه فكرة أن يكتب سلسلة مقالات من ذاكرته السياسية الممتلئة بالأحداث المهمة، ثم نقترح على رئيس قسم الرأي في صحيفة "العربي الجديد" نشرها. وقد أصر أبو عروة "موفق" على أن يسمح لنا الأستاذ عقاب بمراجعتها قبل إرسالها إلى النشر. وبالفعل، كتب واحدة عن الأحداث التي رافقت انقلاب الحركة التصحيحية، ونشرت في غضون أيام، ثم ضاع مشروع سلسلة المقالات من جملة الأشياء التي اعتدنا نحن السوريين على ضياعها.

تتلخص قصة "البعثي الشريف"، في أن الشاب "أحمد" عُيّن في قرية نائية، معلماً وحيداً، لعدد من الصفوف لا يتجاوز عدد التلاميذ فيها العشرين. القرية فقيرة مغبرة، يعتمد أهلها على الزراعة البعلية والرعي، سكانها قليلون، وبيوتها طينية متناثرة. وكان أحمد بعثياً متحمساً، ذا صوت جهوري، حز في نفسه أن قيادة البعث قبلت يومها بفكرة حلّ الحزب عربوناً لقيام الوحدة، وتلبية لاشتراطات عبد الناصر، ولكنه متعاطف مع الوحدة العربية أيضاً.

وفي ذات يوم التهب حماس أحمد، فقرر أن يمارس واجبه‏ القومي النضالي، بترديد شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" أمام تلامذته القليلين، بأعمارهم المختلفة، (هذا مع أن معظمهم لم يسمع لا بالبعث، ولا بالشعار) فخرج صوته قوياً، يعوّض فترة الاحتباس القسري.

بعد عشرة أيام، وصلت إلى القرية سيارة لاندروفر تثير زوابع الغبار، وقد ركض أولادٌ حفاةٌ وراءها، بعضهم نجح في التعلق بجوانبها، بينما استنفر جميع أهالي القرية لهذا الحدث الجلل الذي نادراً ما شاهدوا مثله. لا سيما أن اللاندروفر اقترن اسمُها وموديلها بدوائر الدولة بشكل عام، وبالشعبة السياسية بشكل خاص.

المهم، ألقت دورية الأمن السياسي القبض على أحمد، وأخذوه إلى المدينة ليقابل رئيس الفرع، ويخضع لتحقيق طويل بتهمة ترديد شعار محظور، والخلاصة أنهم، بعدما "أورموه" من الضرب، عرضوا عليه صفقة: العفو عنه شريطة أن "يتعاون معهم"، ويكتب تقارير بأهالي القرية.

قَبِلَ بالتعاون‏‏ معهم. فهو في المحصلة بعثي شريف، مؤيد للوحدة، ولا مانع لديه من كتابة التقارير ما دام هذا يخدم الأمة العربية؟ ولكن.. ضحك أحمد على الرغم منه: أية أحداث "مهمة" في هذه القرية المنفيّة، المبعثرة؟ هل أكتب لهم عن تحدي أم محمود لأم غازي حول بيضات دجاجتها البَرشا، وأنهن أكبر من بيضات دجاجتها، وكلهن بصفارين؟ وعن ردّ أم غازي بأن المهم في بيض الدجاج هو الطعم الطيب وليس الكبر والصغر؟ أم يكتب عن البياع المتجول أبي رحيل الذي يجيء كل نصف شهر لمبادلة العلوك والبلضمينة والخيطان على العدس والقمح والبيض؟ أم عن حكاية كلب أبي جاسم مع كلبة أبي راغب والخلاف الذي دبّ بينهما حول الجراء القادمة ومَنْ الأحَقُّ بها؟ أم عن هجوم كرّ أبي صطيف على حاكورة أم صخر والمعركة الكلامية الحادّة التي حصلت، إثر ذلك، ثم تَدَخُّل زوجها وحلفانه الأيمان المعظمة على أنه سيقطع ذنب الكر؟ أم عن عنزات أبي شوايش التي تفلت أحياناً فتعتلي شجرة المشمش الخاصة بأبي الفوارس؟

حقيقة لا يوجد شيء يستحق الكتابة.

أحمد لم يكتب. لذا، وبعد أقل من شهر عادت اللاندروفر. وكالمرة الأولى اتجهوا إليه: أين التقارير التي وعدت بها يا كذاب؟

وقبل أن تمتد الأيدي الغاضبة إليه من أجل شحطه قال:

- لا تستعجلوا. كتبت. كتبت. ولكنني بصراحة لم أجد سيارة تقلني إلى المدينة لأسلمكم التقرير. انتظروني هنا دقيقة لأحضره من الداخل.

وهرع إلى الداخل على عجل، أغلق الباب وراءه، أحضر ورقة وقلماً، وكتب عبارة موجزة هي: من المعلم ‏أحمد‏.. إلى شعبة الأمن السياسي في...

سيدي... أحيطكم علماً أن الوضع في قريتنا هادئ.. والأمن مستتب.. عاشت الوحدة العربية.. عاش جمال عبد الناصر..

نظر في الورقة ملياً.. دمعت عيناه.. أعاد كتابة العبارة بعدما حذف الجملتين الأخيرتين.

وضع الورقة في مغلف لونه أصفر غامق. وألصقه بالصمغ. وخرج. سلم المغلف لرئيس الدورية، وعاد إلى الداخل، وأغلق على نفسه الباب.

الرحمة لروح الصديق الكبير عقاب يحيى.