جَهْلةُ الأربعين في المشهد السوري

2022.11.05 | 05:31 دمشق

جَهْلةُ الأربعين في المشهد السوري
+A
حجم الخط
-A

جهلة الأربعين مرحلة عمرية يمر بها معظم الرجال والنساء في ضفاف الأربعين أو الخمسين أو قبل أو بعد، وتتبدى بطريقة مختلفة عند الرجل والمرأة، بحسب ظروفهما النفسية وما حُرِمَا منه أو لم يشبع من قبل. وهي تعبيرٌ في جانب من جوانبها عن رغبة بمقاومة تحولات الزمن وما يفرضه على الشخص. ومن الملاحظ أن آثارها في الدول الشمولية ذات النظام الاجتماعي والسياسي والفكري الأبوي تختلف اختلافاً كبيراً عنها في الدول التي تتيح لأفرادها إشباع كل مرحلة عمرية، وإتاحة حيز للفرد كي لا يراكم إشكالاته النفسية وينقلها من مرحلة إلى مرحلة عمرية أخرى.

جرت العادة، عربياً، التركيز على الحديث عنها بصفتها خاصة بالرجال لأن الثقافة العربية والنظم الاجتماعية تتيح للرجل فرصة التعبير عما يريده أكثر مما تتيحه للنساء، أما من جهة علم النفس فإنها مرحلة يمر بها كلا الجنسين، إلا أن مظاهرها تختلف عند كل منهما.

عولجت تلك المرحلة العمرية معالجات عدة، واقترحت لها مقترحات كثيرة في كيفية التعامل معها كي تمر على خير، وبأقل ضرر ممكن على الفرد ذاته، وعلى أطفاله وعلى كل من الزوج والزوجة، لأن فيها مصارعة للزمن ومحاولة التغلب على مظاهره، وفيها أحياناً نسف لتجربة الماضي، بعد أن تكتشف الزوجة الأم أنها ضيعت الكثير من أمومتها في أمومة لأطفال تركوها وراحوا، أو يقفون بجانب أبيهم في مجتمع عشائري، سلطات الرجل فيه هي الأبرز، وفي الوقت ذاته يكتشف الزوج الأب أنه جدير بحياة أفضل من تلك الحياة التي كسرت ظهره وجعلت منه محارباً عنيداً.

وفي إطار النصائح النفسية، يرى مختصون أن الوعي بأن الزمن لن يعود إلى الوراء والتركيز على الإيجابي فيما مضى والحاضر والشريك هو أحد أهم الحلول، كذلك محاولة البحث عن دلالات جديدة للحاضر أو المستقبل.

لا يفرق كثيرون بأن جهلة الأربعين على المستوى الفردي تكون أضرارها ضمن دائرة صغيرة، أما أضرارها في الشأن العام فمختلفة كلياً

في إطار المشهد السوري المعارض والثوري عامة؛ الذي نعيشه اليوم نجد مظاهر كثيرة لها تبرز في تلك التحولات التي يعيشها عدد كبير من التيارات أو الاتجاهات، عبر تغييرات جذرية في الولاءات أو المسارات، وهي ليست ناجمة عن مراجعة وحوكمة فردية أو مؤسساتية، بل نسف للكثير مما تم بناؤه، وتكشف بشكل أو بآخر عن البنى الهشة التي تم التأسيس عليها فيما سبق. ولا يفرق كثيرون بأن جهلة الأربعين على المستوى الفردي تكون أضرارها ضمن دائرة صغيرة، أما أضرارها في الشأن العام فمختلفة كلياً.

من مظاهر جهلة الأربعين أن تجد أستاذاً جامعياً مثلاً قد انتبه إلى تميزه وفرادته متأخراً جداً، ربما في الستين فتذكر أنه في بلده الأم لم يتح له أن يعيش "جهلة الأربعين" فأخذ يوزع الألقاب والتسميات على المثقفين وسواهم. أو تذكر أنه عاش معدماً فقيراً محروماً من متع الحياة، فلَمَ لا يقيم علاقة فكرية استزلامية مع حاكم عشائري أو رجل أعمال جشع يؤمن له حياة مستقرة، متناسياً وهو يوزع الألقاب على الآخرين ويريد الوصول إلى أهدافه الآنية وأنه دهس فكرة المثقف ودوره.

تجد كذلك أن شاعرة تذكرت أنه فاتها الكثير من متع الحياة حين كانت مشغولة بأمومتها فتبدأ بعمليات التجميل الحادة التي تشوهها، أو تحاول لفت الأنظار إليها بما يليق أو لا يليق بعمرها ومكانتها، أو تحاول الارتداد على ماضيها كلياً وتعتبره حالة من الخراب أو اللامعنى أو اللاجدوى.

في إطار جهلة الأربعين يمكنك أن تتحدث عن أولئك الذين يبحثون عن دور دائم لهم، سواء أكانوا في مؤسسات المعارضة أو انتهت مهماتهم، فيتقلبون ذات اليمين وذات الشمال ليقولوا لمتابعي المشهد: أنا موجود عبر كتاباتهم أو مواقفهم أو جلساتهم! ويفوتهم أنه من المهم أن يكون الشخص موجوداً في الزاوية الصحيحة وفي المكان الصحيح بالنسبة لعمره وتاريخه ومواقفه وقضيته وإلا فإنه سيخسر الكثير، ربما سيخسر رمزية حضوره معرفياً وأخلاقياً وسياسياً وفكرياً.

كل مرحلة عمرية في حياة المجتمعات والأفراد والدول يمكن أن يكون لها معنى، ويمكن لكثير منا أن يحول "جهلة الأربعين" رجالاً ونساء إلى فرصة لتحولات إيجابية في إطار هادئ وبما ينسجم مع المشهد العام، وإن كان ذلك لا يمنع أن تحقق فرادتك وتميزك وتحولاتك وتطوراتك الفكرية والاجتماعية.

لا يمكننا أن نطلب أن تكون جهلة الأربعين هادئة وناعمة وفرصة لإعادة قراءة المشهد من كثيرين؛ امتلأت حياتهم الفردية والعامة بالجوع والحرمان، ليس بالمفهوم الغذائي بل بالمفهوم النفسي، أو الشعور بأنهم حرموا من حقوقهم أو واجباتهم. صحيحٌ أن جهلة الأربعين تتبدَّى عبر الأفراد إلا أنها تحمل في جوانب منها إشارات إلى أزمات مجتمعية عميقة يسيطر فيها المجتمع الأبوي على كل شيء، لذلك أول ما تتاح فرصة للأفراد للخروج على سلطة تلك المجتمعات فإنهم يفعلون ذلك، لكنه يتبدى أحياناً على شكل انفجارات تدميرية كبيرة.

في مشهد اللجوء السوري في أوروبا يبدو أن الكثير من السوريين والسوريات اليوم يعيشون جهلة الأربعين التي تظهر على شكل إنكار لما أنجزاه معاً في مجتمعاتهم الأم، أو جلد للذات والآخر. أو على شكل مطالبات قانونية أو سوى ذلك من سرديات ومظلوميات، متناسين أن العلاقة العائلية بين الأفراد ينظمها الوئام والتفاهم والرحمة والمودة، وأن الممكنات القانونية في البلدان الجديدة لن تستطيع أن تلغي ذلك التاريخ المشترك أو تلك اللحظات الصعبة التي عاشها الطرفان في تأمين ربطة الخبز ذات يوم أو تأمين قنينة الغاز، أو تدفئة بعضهما لعدم قدرتهما على تأمين ثمن تدفئة الشتاء، وأن الحياة ليست موجة واحدة، بل موجات من صعود وهبوط.

إن فقدان الأمل واليأس من المشهد السوري العام وتقلب أحوال البشر في مرحلة اللجوء والشعور بالانكسار أو خيبة الأمل والحنين إلى البلد الأم وسيطرة الذكريات والشوق إلى بيئات العمل السابقة أو تلك الشبكات الاجتماعية القديمة يجعل جهلة الأربعين صعبة الحضور في حياة كثير من اللاجئين من الجيل الأول وفيها الكثير من العنف.

كيف نتخذ من عمر الأربعين أو الخمسين أو الستين فرصة لنكون نحن نحن؟ وليس نحن أنتم أو هم؟

يقول مثل صيني: إن العمر يبدأ بعد الأربعين!

 السؤال: كيف يمكن البدء بعمر الحكمة الهادئ، والانشغال بالإيجابي نفسياً وعلى مستوى الإنجاز والوعي بالعلاقات مع الآخرين، والتخفيف من تلك العلاقات السامة، وكذلك العادات السامة وتنظيم حياتنا بعد أن تتغير المسؤوليات والمهام والأدوار على المستوى العام والخاص؟

 كيف يمكن أن ننشغل بما يسعدنا ويفيدنا ويقدم طاقة إيجابية لنا، ونبتعد قدر ما نستطيع عن السلبية والسلبيين ونغير تلك العادات غير الإيجابية التي عاشت معنا فترات طويلة؟

كيف نتخذ من عمر الأربعين أو الخمسين أو الستين فرصة لنكون نحن نحن؟ وليس نحن أنتم أو هم؟ دون أن يكون ذلك على شكل ارتكاسات أو طفرات تحمِّلنا طاقات سلبية جديدة، أو نضيِّع الكثير من وقتنا لندافع عنها؟

ليست الإجابة بسهلة لأن فيها جوانب شخصية وعامة، وتختلف تبعاً لظروف كل شخص ومعطياته وما يحيط به، وشأنه العام والخاص.

 كيفية العبور من جهلة الأربعين إلى ما بعده في المشهد السوري أمر صعبٌ جداً، لأنه مشهد كثير التحولات، فيه أنوف كثيرة حشرت نفسها، واستثمرت وباعت واشترت وتجاهلت واهتمت وتحولت من جهة إلى جهة أخرى سورياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.

بيْدَ أنه من المهم ألا نفقد البوصلة أو نستعجل تحقيق الأهداف، خشية أن ندهس الآخرين ونحن نركض لتحقيق أهدافنا الفردية والعامة، دون النظر إلى الوسائل والأدوات والأخلاقيات العامة. خشية أن نستيقظ من غفلتنا، ذات يوم، فنجد أننا ارتكبنا الكثير من الأخطاء؛ التي أفقدتنا أنفسنا وضيعت مساراتنا وقيمنا؛ فغدونا أشخاصاً آخرين؛ غير أولئك الذين تمنينا أن نكون، أو طمحنا، أو فقدنا ظلنا الذي كان بعيداً فأصبح أبعد وأبعد.

جهلة الأربعين ليست شيئاً معيباً أو مخجلاً، المهم كيف نوظفها ونتعامل معها بصفتها تحولاً عمرياً لا بد من المرور به، وكيف نعبر من خلالها نحو مزيد من تحقيق ما نرغب به، دون نسف ما أنجزناه أو تقزيم ما مضى، لأننا يمكن أن نبدأ بدايات بأحلام جديدة، دون إلغاء ما مضى أو تسفيهه أو غبنه، فلولا ذلك الماضي وتجاربه لما كنا نحن أولئك؛ الذين يرغبون ببدايات جديدة تعيد أنفسهم إليهم، أو تعيدهم إلى أنفسهم!