جيلان من الزمن الأسدي

2021.05.17 | 06:34 دمشق

02_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

في رمضان الفائت عُرض مسلسل «بعد عدة سنوات» على قناتي «سما» و«سوريا دراما». وقام على الانتقال بين زمنين؛ الوقت الراهن بعد الثورة وبين عقد الثمانينات. ولعب الممثل والمطرب السوري الشاب سوار الحسن فيه دور شخص موتور يشي بزملائه في العمل وحتى يتسبب في سجن شقيقه ذي التوجه الماركسي.

منذ أسبوع تقريباً، قبل أن ينتهي عرض المسلسل، نعى سوار والده المحامي خالد الحسن العلي الذي كانت الثمانينات عصره الذهبي، وأتاحت له لعب دور هام في الواقع، لا يختلف في النتيجة عن الدور الذي لعبه ابنه في المسلسل سوى بأنه أكثر تعقيداً ومهارة.

وبخلاف المسلسلات التي تتعرض لمنافسة شديدة، خاصة بعد حصر معظمها في شهر رمضان الذي كُرّس كموسم درامي؛ فإن العرض الذي قدّمه التلفزيون السوري، الوحيد وقتها، في التاسعة والنصف من مساء الأربعاء 27 حزيران 1979، كان لافتاً إلى درجة تسمّر المشاهدين جميعاً لرؤيته. فقد بث التلفزيون ليلتها مشاهد من محاكمة محكمة أمن الدولة العليا لمعتقلين من الإخوان المسلمين، في وقت كانت البلاد فيه تأخذ بالغليان على إيقاع الصراع الدموي الذي كان يتصاعد للتو.

لم يكن أحد يعرف الدرجة التي ستبلغها الوحشية في السنوات اللاحقة، ولذلك بدأ الإيقاع السياسي والقانوني بشكل منضبط نسبياً، وتجلى مشهدياً في بث مقاطع من المحاكمة التي طالت عشرين متهماً ظهروا في القفص، سيُحكَم على ثمانية عشر منهم بالإعدام في النتيجة، من قبل هيئة خماسية تشكلت من ضابطين وقاض عسكري وآخر مدني، برئاسة عضو القيادة القطرية لحزب البعث فائز النوري، القاضي الذي سيرتبط اسمه بهذه المحكمة لعقود.

06_10.jpg
فايز النوري

 

وبالإضافة إلى المدعي العام حوى المشهد محامين كلّفتهم المحكمة بالدفاع عن المتهمين الذين لم تتح لهم ظروف طبيعية لتوكيل محامين يدافعون عنهم أمام السعار الأمني المتصاعد. وهكذا تقاسم أربعة محامين «الدفاع» عن العشرين، واقتصرت مرافعاتهم على بعض الحرتقات القانونية الشكلية وعلى طلب الأسباب المخففة التقديرية للمتهمين. إلى درجة أن المحامي الموكّل عن الخمسة الأخطر بينهم خلص في «دفاعه» إلى أن الأعمال التي ارتكبها هؤلاء كانت «تنفيذاً لمخطط يهدف إلى تمزيق وحدة المواطنين والإضرار بالاقتصاد وخدمة الاستعمار والصهيونية والنيل من صمود شعبنا وقطرنا»، غير أن هذا كان نتيجة «التهور والطيش وعدم الشعور بالمسؤولية»، ملتمساً النظر بعين «العطف والشفقة»..

ربما كانت تلك المرة الوحيدة التي ظهرت فيها محكمة أمن الدولة العليا في الإعلام. غير أن شهادة بعض من مثلوا أمامها عام 1980 تشير إلى أنه لا شيء قد تغيّر. فيروي أحد الناجين أن المحامي المكلّف عنه قرأ صفحات طويلة تمتدح حافظ الأسد بوصفه الرئيس الوحيد الذي تصدى للإمبريالية الأميركية ومخططاتها، وللصهيونية العالمية وأهدافها، ولعملاء كامب ديفيد من العرب. وأن تلك القوى، لما عجزت عن مواجهته، قامت بتسخير الدين الإسلامي الحنيف، واستئجار قيادات عميلة، واستغلال حماسة الشباب المسلم وتوريطهم في عصابات مسلحة دموية هدفها التخريب والفتنة. واستغرق المحامي في مرافعته ثلث ساعة كانت ثقيلة على المتهمين وحتى على فائز النوري، القاضي الذي عُرف بنزقه وبإنهاء محاكمة أي شخص خلال دقائق.

كان في جعبة النوري الرجل المناسب، وهو المحامي خالد الحسن. فهو شخص يعرف من أين تؤكل الكتف، ويفهم كيف يؤدي دوره شكلياً عندما تغيب الأكتاف.

كان خالد من مدينة الميادين في محافظة دير الزور نفسها التي يتحدر منها النوري. وكانا قد تعارفا كعضوين من «الجالية» الديرية البعثية المهاجرة إلى دمشق، حيث ترقى النوري في الحزب وصعد الحسن في اتحاد الطلبة، قبل أن تتوثق علاقتهما بشكل خاص عندما تزوجا أختين بشكل سري، وكان «عديلهما» من الشقيقة الثالثة لا أقل من رفعت الأسد نفسه! كانت تلك قفزة صاروخية في حياة خالد الحسن الذي انتقل من هيئة الشاب المتريّف إلى العناية بأناقته، فقد تميزت الأخوات الثلاث بالجمال والرقي والانفتاح. فيما حافظ على زواجه الرسمي من عائلة متنفذة، وكذلك فعل النوري، حتى اكتشفت أم جرير (زوجة خالد الحسن) وأم خالد (زوجة فائز النوري) الأمر وأجبرتا الرجلين على إنهائه.

بعد ارتباطه برفعت حلّق الحسن الذي صار لقبه في أروقة اتحاد الطلبة «الطاووس». وعن طريق «القائد» تعرف على شقيقه جميل الأسد الذي كان مشغولاً بتأسيس «جمعية الإمام المرتضى» المتشيّعة وبناء فروع لها في المحافظات. واستغل خالد الغموض النسبي لأصله من عشيرة «الويسات» فنسَبَ فخذه إلى «المَشاهدَة» الذين يشتهر أنهم من آل البيت. وبذلك تقرّب من جميل، وحجز لنفسه لقب «الشريف» الذي يظهر في نعيه إلى جانب وصفه الحزبي «الرفيق».

 

07_10.jpg

 

ولما خرجت دفعة من قيادة المكتب التنفيذي لاتحاد طلبة سورية بعد عدة دورات، كان الحسن بينها، توجّه بعضهم إلى العمل الرسمي فيما اختار هو أن يكون محامياً. وسرعان ما أصبح المعتمد الأول في محكمة أمن الدولة العليا، توكّله عن متهمين لا يرونه ولم يعودوا يعرفون بوجوده أصلاً بعد أن اختُزلت إجراءاتها إلى دقائق. وبين دور شكلي وآخر كان يختار بعض ملفات المتهمين ويتواصل مع ذويهم من التجار في حلب ودمشق وحمص وحماة وغيرها. وكان هؤلاء مستعدون لدفع مبالغ طائلة مقابل التأكد من بقاء أبنائهم على قيد الحياة، أو زيارتهم، أو إيصال أغراض أساسية لهم، وصولاً إلى تحسين ظروف احتجازهم والتأثير في أحكام النوري عليهم.

كانت تلك تجارة رائجة في عقد الثمانينات الكالح، ولا سيما لمعتقلي الإخوان المسلمين الذي تعود أصول بعضهم إلى طبقات ميسورة. واستمرت، بشكل أضيق، مع السجناء الشيوعيين الذين لم يكونوا كذلك. وطيلة هذه السنوات كان الحسن السمسار اللطيف للنوري المتجهم، وهو يراكم المال والعلاقات. ومع نضوب هذا النبع، بتعقيم المجتمع من السياسة وانحسار الاعتقالات بالتالي؛ وسّع خالد نشاطه إلى المحاكم العسكرية والقضايا المشتبكة مع «الدولة» في الجهاز المركزي للرقابة المالية والهيئة العامة للرقابة والتفتيش. وتحول مكتبه، جانب جسر فيكتوريا في قلب العاصمة، إلى ما يشبه شركة تعقد فيها الصفقات التي شملت أنواعاً متعددة من التجارة بالتدريج، في العقارات والسيارات وملف النفط العراقي وغيره، ولا سيما بعدما كبر أبناؤه الذكور الثلاثة؛ جرير وغدير وسوار، وتزوجت ابنتاه من آل المسلط، عائلة المشيخة في قبيلة الجبور الممتدة في بلدان عربية عديدة.

ورث جرير مهنة أبيه في المحاماة وعمل معه في مكتبه، حتى تعرض لتهديد بعد الثورة فغادر إلى لبنان ثم انتقل لاجئاً عادياً إلى السويد. أما الآخران فظهرا في صور وفيديوهات أثناء معركة الغوطة الشرقية في آذار 2018؛ بوصفهما قائدين لمجموعة من القوات الرديفة تدعى «قوات الصاعقة الشرقية» مرتبطة بالمخابرات العسكرية. على الرغم من أن غدير يقدّم نفسه كدكتور في القانون الدولي، فيما لا يُظهر سوار للإعلام سوى وجهه كفنان، ويحرص على نشر صوره العائلية مع زوجته آلاء بديع الأسد، ابنة عم رأس النظام بشار والمتطوعة كضابط في جيشه.

 

09.jpeg
سوار (أبو باسل) وسط «عناصره» في معركة الغوطة الشرقية