جيش الشرق: الفرنسيون على البغال في شوارع المحروسة

2020.09.14 | 00:03 دمشق

jysh-alshrq-kharjy.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تفقد حملة نابليون على الشرق الأوسط سحرها ولا شعبيتها على الرغم من فشلها عسكرياً، خصوصاً في دورها الأساسي كإحدى محطات لقاء الشرق والغرب ووصول المدفع إلى البلاد العربية، وإعادة إحياء الحضارة الفرعونية القديمة وقراءتها من جديد بعد فك رموز حجر رشيد. لقد أراد نابليون من هذه الحملة أن تكون فرصة لتكوين مستعمرات جديدة، عوضاً عن المستعمرات التي فقدها في جزر الهند الغربية، وأن تصبح مصر فرصة لفتح أسواق جديدة للصادرات الفرنسية، والأهم توفير موطئ قدم لمهاجمة الهند كبرى المستعمرات البريطانية.

في هذا السياق طالعت كتاب "جيش الشرق: الجنود الفرنسيون في مصر 1798-1801" من تأليف تيري كرودي، ونقله للعربية د. أحمد العدوي، وصدر عن دار مدارات للأبحاث والنشر. يقص علينا المترجم في مقدمته للكتاب شغفه بحكايات الحملة الفرنسية منذ طفولته، وكيف أن أحداث الحملة كانت من أهم أحداث التاريخ التي تركت فيه أثراً منذ الطفولة حتى الآن، ففي الصيف كان العدوي يزور قريته بني عدي في محافظة أسيوط، ويلاحظ مقابر منفصلة على زمام القرية، وتثير دهشته العناية التي كان أهل القرية يحيطون بها هذه المقابر. وعندما سأل والده عرف أن هؤلاء هم الشهداء من أهل القرية الذين سقطوا وهم يقاومون الجنرال الفرنسي دافو. حيث نصب الجنرال مدافعه فوق تلة عالية حول القرية وصب حمم المدافع على أهلها. وقد أخذت المترجم حمية الشباب، وأخذ على نفسه عهداً أمام قبور هؤلاء الشهداء بتأليف كتاب عن الحملة الفرنسية يهديه لأرواحهم، وفي ترجمته لهذا الكتاب محاولة للوفاء بعهده القديم.

يحتوي الكتاب على شهادات حية لرجال الحملة (عسكريين ومدنيين)، ونلاحظ أن المؤرخ في هذا الكتاب سيلعب دوراً لم يعتده المؤرخون ولا يفضلونه، سيتوارى تماماً، وسينكر ذاته ويفسح المجال لشهود العيان ليرووا تلك الأحداث التي شاركوا في صنعها بأنفسهم.

بلغ عدد جيش نابليون 34 ألف جندي، وتمت تغطية تكاليف الحملة من المال المسلوب من سويسرا. وغطت شهادات الكتاب جوانب كثيرة من أفكار الجنود وهواجسهم، منذ انضمامهم للحملة عبر موانئ طولون وجنوة، فلم يصرح نابليون بوجهة الحملة، وبدأت التخمينات في صفوف الجنود، ودار الكثير من اللغط هل هي البرتغال أم مصر؟ وتداول بعض الجنود الشائعات بأن الحملة ذاهبة إلى صقلية أو مالطا، حتى علماء الحملة الفرنسية لم يعرفوا وجهة الحملة ومسارها، ومن رجحوا كفة مصر فإنما فعلوا ذلك لأن قادة الحملة قد استولوا على كل الكتب والخرائط عن مصر وسوريا.

ومن الأمور التي يشير إليها الكتاب قلة السفن التي تم تجهيزها لحمل الخيول مما نتج عنه قلة شحن الخيول في الحملة. وقد حمل الفرسان مستلزمات للخيول على السفن بدون جياد، على أمل أن يغنموا خيولاً في معاركهم لاحقاً. وينقل الكتاب معاناة بعض الجنود من دوار البحر، ونتعرف على نوع الطعام في سفن الحملة ونرى سوء تخزين الطعام وفساده، ويصف أحد الجنود حالتهم بأنهم قد حشروا حشراً كالأنشوجة في البرميل، فلك أن تتخيل سفينة المشرق إحدى أكبر سفن الحملة تحمل ألفي جندي، وألفاً من طاقم البحرية، وأكثر من مائتين آخرين من الجنرالات والقادة والإداريين، فضلاً عن 132 مدفعاً ثقيلاً.

أما المقصورات في السفن فكانت ضيقة مثيرة للاشمئزاز، وقد يجتمع فيها عشرون رجلاً بين سكير ومريض، أما الأواني الفخارية فهي قذرة لا تخلو من أثر شحوم اللحوم الفاسدة، مع رائحة كريهة من أثر ترسبات مرق الشحوم القديمة، وقتال لا يهدأ من جانب السوس على الخضراوات، فضلاً عن المياه العكرة كريهة الرائحة، والبيض الفاسد والكعك المغبر. وبالإضافة لهذه المعاناة مع الطعام كان هناك القلق الدائم من هجوم نلسون أمير البحر الإنجليزي على سفن الحملة الفرنسية.

وصل الجنود إلى مصر وكانت الانطباعات الأولى مخيبة للآمال تماماً، فليست هناك شجرة واحدة أو آثار عمران محسوس، وعبث أحد الجنود وهو يشير إلى الصحراء: "انظر هناك، هذه هي الهكتارات الست التي وعدنا بها نابليون". وشعر أحد الجنود الآخرين بالإحباط فليس ثمة شيء ليتم أكله، ولا يعرفون لغة أهل البلد. ومع الوقت تبدد أي أمل في العودة إلى فرنسا بعد شهر واحد من الوصول إلى مصر، بعد أن نجح الأسطول الإنجليزي في تدمير السفن الفرنسية في أبي قير، وفي لحظة الانفجار كانت الإسكندرية مضاءة في الليل بفعل تفجر الذخائر وكأنهم في وضح النهار. وانخفضت المعنويات ولم يكن استهلالاً غير موفق فحسب، ولكنه كان أمراً ينذر بسوء طالع عظيم كما عبر أحد الجنود.

بحث الجنود الفرنسيون على الطعام كلما اقتربوا من المدن المصرية، ويحكي أحد الجنود على ابتهاج بعض الأفراد من المصريين بالحصول على أزرار المعاطف الفرنسية، وجرب الجنود الفرنسيون الموسرون اقتناء العبيد، وحاز العديد من الجنود الفرنسيون على غنائم وفيرة بعد معركة الأهرام (إمبابة) التي سرعان ما أنفقوها ببذخ، واشترى معظمهم الحمار الريفي الصغير (الجحش)، وينقل أحد الجنود مشهد تسابق الفرسان الفرنسيين على الحمير في الحواري الضيقة والمتعرجة، ونقل الجبرتي هذا المشهد بقوله: "كان الكثير من الفرنسيين يظل طوال النهار فوق ظهر الحمار بدون حاجة سوى أن يجري به مسرعاً في الشارع".

وتصف لنا بعض الشهادات في الكتاب مشاعر عدة جنود فرنسيين في الحمامات العامة وانبهارهم بالخدمة فيها، لقد خرج أحد الجنود من هذه الحمامات وهو يقول: لقد انتابني شعور جارف بالليونة والخفة، تماماً كطفل حديث الولادة يتنسم نسمات الحياة للمرة الأولى، وعاد الجندي لهذه التجربة عدة مرات بعد ذلك أحيانا بمفرده أو بصحبة أصدقاء له.

لم يكتف بذلك الفرنسيون. لقد تكيفوا مع الطرق المصرية الأخرى مثل شرب القهوة القوية، وتدخين التبغ عبر النارجيلة، وعانى الفرنسيون من افتقاد الخمر في القاهرة. وابتكر بعض الجنود شراباً مصنوعاً من الحشيش، وقاموا بتدخين الحشيش، وأنشأ مقاول فرنسي مصنعاً لصناعة البراندي وعرق القصب، ومع استمرار الطلب على الحشيش، أصدرت القيادة الفرنسية في عام 1800 قراراً بحظر تدخين بذور القنب الهندي (الحشيش).

يصف الكتاب معاناة جنود الحملة الفرنسية مع الضجر والملل والأوقات الطويلة، واختلاف المناخ ومتاعب الحرارة الشديدة، وخوفهم من التنزه مخافة هجوم العربان عليهم، ولم يكن لديهم أنشطة كثيرة إلا لعب القمار والسمر، وقامت علاقات بين الجنود الفرنسيين وبعض العاهرات المحليات، وتعجب الجنود من ارتداء النساء للبرقع، ووصف بعضهم نظام الحرملك.

يشير الكتاب إلى الانضباط العسكري الصارم بين صفوف القوات الفرنسية مثل فرض عقوبة الإعدام على نطاق واسع من الجرائم، وتم تحذير الجنود من بيع الزي الرسمي للجيش، أو بيع الأسلحة لسكان الإسكندرية، ويصف الكتاب نظام العدالة والعقاب في جيش الفرنسيين، ولا يكتفي بذلك بل يرصد معاناة الجنود مع الحشرات مثل البراغيت والناموس ولدغات العقارب. ومع الحشرات جاءت الأمراض، خصوصاً الطاعون الدبلي.

وينقل لنا الكاتب شكوى علماء الحملة من لامبالاة الجنود الفرنسيين بالاكتشافات العلمية، فقد تخيلوا أن مراد بك أحد كبار قادة المماليك يملك جملاً أبيض محملاً بالذهب والجواهر، ولم يكن شيء يشغلهم إلا الحديث عن مراد بك وجمله المزعوم.

يستمر الكتاب في التقاط تفاصيل الحياة اليومية للجنود مثل استبدالهم الخيول بركوب الجمال، وارتدائهم ملابس محلية تناسب حرارة مصر، ويشرح الكتاب اختلاف طريقة التشكيلات القتالية بين الفرنسيين وبين المماليك، ونقرأ شهادات بعض الجنود عن شجاعة المماليك، ويفسر الكاتب تقنيات الحرب الجديدة التي استخدمها الفرنسيون، ثم يصل بنا إلى الانسحاب الفرنسي المذل أمام أسوار عكا، الذي لا يماثله إلا الانسحاب الفرنسي من موسكو 1812، ويناقش الكتاب مدى مسؤولية نابليون في ترك مرضى الطاعون ليفترسهم الموت، بل أمره بتسميم الجنود المرضى وهي التهمة التي حاول أن يدافع فيها عن نفسه في مذكراته.

يتضح لنا عبر الشهادات كيف انهارت سمعة نابليون بين الجنود، فلم يعد ذلك القائد الملهم الذي لا يقهر بعد فشله في اقتحام عكا وسوء إدارة الحصار، وعدم مبالاته بالجرحى من جنوده، ثم عودته في السر إلى فرنسا، تاركاً كليبر ليقود الحملة خلفه بدون أسطول فرنسي بعد إغراق الإنجليز الأسطول الفرنسي في أبو قير. لقد فقد جيش نابليون ثلث رجاله تقريباً أي ما يعادل 15 ألف رجل بين قتيل في المعارك وضحية للأمراض والأوبئة، ولقد رأينا في الكتاب كيف عانى الجنود من الظروف القاسية في مصر وفلسطين، بسبب الحرارة الشديدة والعطش وتفشي الطاعون الدبلي، الذي اجتث الكثيرين دون تمييز.

يبقى لنا ملاحظة عن كون هذا الكتاب يقربنا من حقل دراسة حياة الجنود والأفراد العاديين في الحروب، وهذا النمط من الكتابة لدينا نماذج متفرقة تعبر عنه مثل "كل رجال الباشا" عن جيش محمد علي باشا، للمؤرخ خالد فهمي الذي اعتنى بحياة الأنفار والجنود في جيش الوالي. وهناك شهادة الجندي إحسان الترجمان من فلسطين في الحرب العالمية الأولى في كتاب "عام الجراد"، ويمكن مقارنة تفاصيل همومه وأفكاره بتصورات قائده جمال باشا التي عبر عنها في مذكراته.

 وهناك "مذكرات عبد الله دبوس" الضابط البيروتي في الجيش العثماني، وهناك "مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس" لأحمد حجي، أو تجربة الأسر لدى الإسرائيليين التي عبر عنها فؤاد حجازي في كتابه "الأسرى يقيمون المتاريس"، والرواية التي كتبها محمد حسين يونس "خطوات على الأرض المحبوسة" التي تصف تجربة الأسر ثمانية شهور في سجن عتليت في إسرائيل، بالإضافة للدراسات التي اعتنت بتتبع تفاصيل حياة الجنود مثل كتاب "الحرب العالمية الأولى" لنيل هايمان الذي اعتنى فيه كاتبه بدراسة حياة الجنود ونمط الحياة في الخنادق، والطعام في الحرب، ودراسة تجربة التمريض ومشاركة النساء في الحرب العالمية الأولى، وكيف كانت الحياة في 52 شهراً في الحرب العالمية الأولى، وغيرها من الزوايا التي تنظر لحياة الجندي العادي وتعتني بقصته وتحاول تخيل نفسيته في هذه الصراعات. ولدينا كتاب "حكاية الجند: الحرب والذاكرة والمذكرات في القرن العشرين" لصموئيل هاينز الذي يصنف كأقرب دراسة في أدب الفظاعة وتتبع مآسي الجنود في الحروب، والكتاب يبحث في معنى أن يجد المرء نفسه فى الخطوط الأمامية مشاركًا فى القتال وضحية له؟ ويجد هاينز أن أفضل وسيلة لبلوغ هذه المعرفة الخاصة هى دراسة المدونات الشخصية للجند المشاركين فى القتال.

وبالطبع يمثل كتاب تيري كرودي الذي عرضنا له نموذجاً لهذا الصنف من الكتب، وقد لا يكون القارئ العربي حريصاً كل الحرص على رفاهة الجنود المحتلين لمصر، غير أن الكتاب يحكي لنا بطريقة غير مباشرة طريقة الحياة في مصر في ذلك الزمن من خلال انخراط جنود الحملة الفرنسية في هذه البيئة.

كلمات مفتاحية