جنديرس.. في إدانة جرائم التمييز والاستغلال السياسي

2023.03.25 | 06:12 دمشق

جنديرس.. في إدانة جرائم التمييز والاستغلال السياسي
+A
حجم الخط
-A

ليست الحريّة كلمة عابرة نستخدمها في أثناء الكلام فحسب بل حاملا جوهريّا وأصيلا استنادا إليه يتعرف الوعي إلى ما تلاه من هويّات الأشياء والأسماء والأفعال بل وحتّى السلوكيّات، وسواء أكانت طبيعة الإنسان شريرة أم خيّرة فإنّ غياب الحريّة يمنع ذلك الإنسان من بلوغ حقيقته فضلا عن إدراك حقيقة ما سواه!

ثمّة حدث مؤكّد وهو مقتل خمسة مواطنين سوريين يوم 21 آذار الجاري في ناحية جنديرس التابعة لعفرين في المنطقة السورية التي صار يطلق عليها بعد العمليّة التركيّة في آذار 2018 منطقة "غصن الزيتون"، وتقول الأنباء الواردة أنّ القتلة هم عنصران أو ثلاثة من فصيل "أحرار الشرقيّة" الفصيل الذي ينتمي جغرافيّا إلى شرق دير الزور السوريّة والموجود في عفرين- جنديرس منذ العمليّة العسكريّة المشتركة بين العديد من الفصائل والقوات التركيّة.

انتشر فيديو لامرأة من ذوي المغدورين تقول وهي تذرف الدموع: (الله خلقنا أكرادا فماذا نفعل!؟)

من حيث المبدأ فإنّ القاتل والمقتول سوريّان والفارق بينهما أنّ المقتول هو من أهالي المنطقة بالمقابل القاتل وافد إلى المنطقة في أثناء العمليّة العسكريّة لطرد تنظيم  pyd الذي تتهمه تركيا بالارتباط بـ pkk والأخير مصنّف على لائحة الإرهاب بالنسبة إلى تركيا.

من تبقى من السكّان لا يمكن أن يكونوا لا pyd ولا pkk لأنّهم لو كانوا كذلك لخرجوا مع العناصر العسكرية والمدنيّة التي خرجت منذ ذلك الحين

ومن حيث المبدأ أيضا فإنّ الإنسان الذي يمتلك ثلاث هويّات: طبيعيّة ومدنيّة وسياسيّة، فإنّ هويّته العرقيّة -أيّا تكن- هويّة طبيعيّة لم تخضع لاختياره فضلا عن كونها تهمة مسؤولا عنها؛  في حين أنّ الحزبين المذكورين حزبان سياسيّان ويُفترضُ أنّهما قد تمّ إخراجهما من عفرين وجنديرس منذ الإعلان عن انتهاء العمليّة العسكريّة وسيطرة "الجيش الحر" المدعوم تركيّا؛ وأنّ من تبقى من السكّان لا يمكن أن يكونوا لا pyd ولا pkk لأنّهم لو كانوا كذلك لخرجوا مع العناصر العسكرية والمدنيّة التي خرجت منذ ذلك الحين، وإذا كانوا بالفعل منتمين إلى تلك الأحزاب المحضورة تركيّا فلماذا لم يتم القبض عليهم أو إدانتهم حتى 2023!

وانتشر فيديو آخر لامرأة عفرينيّة تقول: "اذهبوا وشوفوا السجون لأنها ممتلئة بشبابنا -الكرد- وأنّ الكرد متّهمون طوال الوقت ومعرّضون للمساءلة" ولعلّنا نميل إلى تصديقها لسببين غير كونها امرأة منكوبة:

الأوّل يتمثّل بغياب القانون فضلاً عن المساواة أمام القانون؛ مع التأكيد على أنّ القواعد التي تفرضها القوّة لا يمكن اعتبارها قانونا وأنّ التساوي إن لم يكن ثقافة حاصلة ومعتمدة بين جميع أفراد المجتمع وأطيافه فإنّ التساوي في الوقوف أمام القانون محض افتراض باطل!

الثاني أنّ مجتمعاً لا يحكمه القانون ولا يقوم على المساواة ويعاني فوضى السّلاح وندرة فرص العمل.. فإنّ ذلك المجتمع سيُفرز علاقات سلطويّة محورها القوّة؛ ومن المرجّح أن يبحث العاطل إلّا عن حمل السلاح عن تفعيل دوره في منظومة "القوّة/ السلطة" وسيكون مشغولا بالبحث عن متّهم أكثر ضعفاً منه وتهمة مناسبة طوال الوقت!

ولو حاولنا تتبع موضوع السّلاح بذاته فلعلّه لا يخرج عن إحدى الذرائع التاليّة: "محاربة النّظام، أو داعش، أو pkk و pyd" وبالطبع فمن غير المنطقي اتهام الكرد بالتبعيّة للنظام أو لداعش –فهذه تهم جاهزة يمكن توجيهها للعرب غالبا- أمّا الكردي فيمكن ابتزازه باتّهامه بالتبعيّة للـ pyd أو pkk!.

ومن حيث المبدأ دائما فإنّ العلاقات القائمة على القوّة -لا على الحريّة - إنّما هي علاقات ما قبل مدنيّة، حيث يبدو الأقل قوّة موضوعاً متّهما طوال الوقت من جهة القوّة؛ فتتصاعد سلطة الأمر الواقع في تسلسل هرمي من العلاقات الاجتماعيّة بين أفراد الأسرة ثمّ الحي فالمدينة وصولا إلى أعلى هرم سلطات الأمر الواقع؛ لذا فقد لا تكون إدانة مرتكب الجريمة - صاحب العلاقة المباشرة بالجريمة- بمفرده إرضاء للرأي العام، كافية. مع التأكيد دائما على أهميّة دور الإعلام الحرّ في الاستناد إلى الرأي العام كوسيلة للضغط على سلطات الأمر الواقع.

ثمّة سياق آخر يمكن قراءته من حدث الجريمة: تلك الجريمة حدثت في يوم عيد النيروز وأنّ المغدورين كانوا قد أشعلوا النّار احتفالا بعيد النيروز؛ ما يوحي أنّ دوافع ارتكاب الجريمة قد تكون متعلّقة بالتشدد الديني. وقد أظهر أحد الفيديوهات امرأة من ذوي المغدورين تحاول تبرير إشعال المغدورين النّار خارج المنزل بالبرد من جهة وبالخوف من الزلزال من جهة أخرى؛ ولعلّ محاولتها التبرير –وإنْ كان ما ذكرته يمكن أن يكون صحيحا بالفعل- إلّا أنّ مجرّد انشغال امرأة مكلومة بتقديم مبرّر يشير بوضوح إلى خوفٍ أكبر من الحزن الذي يكلمها ذاته؛ وهل إشعال النّار خارج المنزل احتفالا بنيروز يحتاج إلى تبرير!

من جديد لا بد من محاسبة القتلة باعتبارهم مسؤولين مباشرين عن الجريمة لكن لعلّنا نستخدم نار نيروز وحطبها لنضرب مثالا عن المسؤوليّة غير المباشرة أيضا: إنّنا حين نضع نارا وحطبا في مكان ضيّق ثم يشتعل الحطب بالنار فإنّ من غير الكافي نسبة الفعل إلى النّار وحدها ولا حتّى لنسمة الهواء التي أوصلت النّار إلى الحطب؛ بل لا بدّ –منطقيّا - من توجيه المسؤوليّة إلى الأشخاص والجهات والثقافات المسؤولة بشكل مباشر وغير مباشر، فأحيانا تكون المسؤوليّة غير المباشرة أكثر تأثيرا!

إذاً ليس من العيب مطالبة الجهات السياسيّة والحكوميّة التي أعلنت نفسها مسؤولة على منطقة الشمال السوري بالإعلان عن مسؤوليّتها؛ وليس من العيب أيضا المطالبة بمراجعة شاملة للثقافة الاجتماعية والسياسية التي لا تقوم على مبدأ المساواة فتشجّع على ممارسة التمييز العرقي أو الديني أو كليهما معا باعتبار ذلك التّمييز "فضل بعض النّاس على بعض" بدلا من استنكار تلك الممارسات، وليس عيبا أيضا توجيه المسؤوليّة إلى الجانب الاقتصادي والاعتراف بالفراغ الأمني والقانوني!

تحمّس كثير من النّاشطين لـ "إقامة العدل" والاقتصاص من القتلة، وتناقلت العديد من المواقع والناشطين خبرا مفاده: أنّ وفدا من أهالي المغدورين استنجد بهيئة تحرير الشّام؛ ثم تناولت مواقع أخرى خبرا مفاده: أنّ الهيئة تعمدت سحب جثامين المغدورين إلى "أطمة " المنطقة الواقعة تحت سيطرة الهيئة لاستدراج أهالي المغدورين إليها!

كل نشاط سواء أكان إعلاميّا أو مدنيّا أو سياسيّا إن لم يكن مبنيّا على قاعدة احترام حقوق الإنسان كإنسان؛ فإنّ ذلك النّشاط لا يندرج ضمن النشاط المدني

ولعلّنا نميل إلى أنّ الرواية الثانية أكثر منطقيّة قياسا إلى سابقة قريبة تتعلّق بسعي الهيئة لتحقيق مكاسب سياسيّة بذريعة تحقيق "العدل" في مقتل النّاشط "أبو عنّوم" فاجتاحت الهيئة خلال الشهر العاشر من العام الماضي مناطق عديدة من عفرين؛ والأخبار الواردة اليوم تفيد بأن تلك الأهداف السياسيّة -لا الإنسانيّة ولا المدنيّة- تمّ تحقيقها كاملة بسيطرة الهيئة على جنديرس بذريعة تحقيق "العدالة" في مقتل خمسة من إخوتنا السوريين الكرد!

لعلّنا مع هذا المآل البائس نتذكّر أن كل نشاط سواء أكان إعلاميّا أو مدنيّا أو سياسيّا إن لم يكن مبنيّا على قاعدة احترام حقوق الإنسان كإنسان؛ فإنّ ذلك النّشاط لا يندرج ضمن النشاط المدني، بل ربّما يلقي بالقضايا العادلة لقمة سائغة للاستخدام السياسي؛ فيودي بالحريّة التي بها –لا بغيرها- يُعرف العدل من الظلم!

وفي النّهاية لعلّنا أيضاً بحاجة إلى الاتفاق على إدانة دوافع الجريمة دائماً لأنّ سوريا والشمال السوري على وجه الخصوص يحتاج إلى الكثير من الوعي المدني في تناول قضاياه وإلى المزيد من الأمنيات بالسّلامة للسوريين هناك.