جمال الدين الأفغاني والكرمانيون الثلاثة 1/2

2020.03.12 | 23:01 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يدرك أحد من المفكرين الإسلاميين البارزين مكانة جمال الدين الأفغاني (1838 ــ 1897) ولا أهمية دوره ومركزيته إدراك مالك بن نبي حين قال في كتابه شروط النهضة: "ففي هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق انبعث من بلاد الأفغان صوتٌ ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حيّ على الفلاح! فكان رجعه في كلّ مكان. إنه صوت جمال الدين الأفغاني".

ورغم عشرات الكتب والدراسات والبحوث والمقالات التي كُتبت عن جمال الدين فإنّ الصورة لم تكتمل عنه، والدور الذي لعبه في أطوار محددة من حياة الشعوب الإسلامية في عصرها الحديث لم يتضح بكامل أبعاده، ومن أجل ذلك وجب أن نوسّع دائرة البحث خارج كتابات الأفغاني نفسها العربية والفارسية، إلى كتابات الدوائر المحيطة به، وأن نوسّعها أكثر إلى مظان أخرى، كما فعلت الباحثة الإيرانية هوما باكدامان حين رجعت إلى ملف الأفغاني في دائرة الشرطة الفرنسية، ومجموعات الصحف الأوروبية، ومحفوظات الأمير مالكم خان الإيراني في المكتبة الوطنية في باريس، وملف الأفغاني في مكتب السجلات العامة بلندن، ومحفوظات الخارجية الفرنسية، والمحافل الماسونية، في سبيل كتابتها أطروحة الدكتوراة بالفرنسية حول الأفغاني التي طبعتها سنة 1969، وقدّم لها مكسيم رودنسون، وأشاد فيها بالجهد الذي بذلته المؤلفة. وتخبرنا باكدامان أن الأفغاني "لقي الكثير من اهتمام الدارسين والباحثين، ومع ذلك ظلت بعض فترات حياته وإصلاحاته قليلة العناية بجهدهم، ومن ذلك فترة إقامته في إيران، وأعماله وأثره. بل إن كتاباته الفارسية تكاد تكون مجهولة"، ولذلك فقد رامت ترميم الصورة لتصفو لنا غاية صفائها، وتوخّت تجليتها بأبعادها الأوسع وآفاقها الأرحب لتضيء لنا غاية إضاءتها، ورغم جهدها المميّز الرائع ظلّت الصورة غير مكتملة، وتحتمل بل تستدعي المزيد من التفتيش والتقميش.

على سبيل المثال نقرأ في معظم المصادر التي تناولت الأفغاني بشكل مباشر أنه وصل إلى إيران سنة 1886 عن طريق ميناء بوشهر، وأنه أقام ثلاثة أشهر في ضيافة صديق له، ثم انتقل بعد ذلك إلى أصفهان ونزل في دار صديقه وتلميذه الحاج سيّاح، وما سوى ذلك لا تذكر المصادر شيئاً آخر! مَنْ هذا الصديق الذي مكث عنده ثلاثة أشهر؟ ما علاقته به؟ ماذا فعل الأفغاني في هذه المدة؟ لن نجد جواباً في هذه الكتب! وسنقرأ في مذكرات الحاج سيّاح (خاطرات حاج سيّاح) أن الأفغاني نزل في زيارته اللاحقة لإيران في دار صديق له يدعى الشيخ حسن، ولكن لن تخبرنا الكتب الخاصة بسيرة الأفغاني من هو الشيخ حسن؟ وسننتظر حتى نقع على خبر ذلك مصادفةً ونحن نبحث في سيرة حياة المصلح الإيراني الكبير آية الله شريعت سنكلجي (1892 ــ 1944)، أحد أهم رجال الإصلاح الشيعة ورائدهم في إيران، وسوف يحدّثنا عن والده الشيخ حسن سنكلجي بوصفه صديقاً للسيد جمال الدين، وأنّه سكن في بيتهم مدة من الزمن، وكان يقرأ القرآن في الليالي، فإذا وقف على آية لافتة جذبت انتباهه أيقظ صاحبَ المنزل، ونبّهه إلى تلك الآية التي وقف عليها، وهكذا نعلم أنّ شريعت سنكلجي وُلد في بيت كان قد مكث فيه الأفغاني عدة شهور، غرس خلالها أشجار أفكاره الإصلاحية في خطط قلب صاحب البيت فأزهرت مع الأب، وأثمرت مع الابن.

وهذا المثال يلقي بصيصاً من الضوء على ما نروم بيانه، حيث نستشف من خلاله دور الأفغاني في الحركة الإصلاحية الفكرية الإيرانية، وهذا الدور لا يقتصر على التأثير بالشيخ حسن سنكلجي ومن بعده ولده شريعت سنكلجي، بل يتعداه إلى التأثير بأهم المصلحين الإيرانيين الآخرين كهادي نجم آبادي (1835 ــ 1902)، وأسد الله خرقاني (1839 ــ 1936)، اللذين يعدّان بحق مع شريعت سنكلجي آباء الإصلاح الشيعي، ومن هنا يتعين علينا حين ندرس الأفغاني أن ندرس الخرقاني ونجم آبادي أيضاً، بل وأن ندرس الحاج سيّاح: مذكراته وسيرة حياته، ومكانته في المشهد الثقافي والسياسي الإيراني، وطبيعة علاقته بالأفغاني ومدى تأثّره به وترسّمه خطاه.

أما المفاجأة ههنا فأن ندرك أنَّ تأثير هذه الشخصية الفريدة المركّبة والمعقّدة لم يقتصر على إيجاد تيار إصلاح إسلامي، بل تجاوزه إلى تأثير مضاد مسؤول عن بثّ الروح في تيارٍ قومي إيراني علماني متطرّف (وهذا ما سنتحدث عنه في الجزء الثاني من هذا المقال من خلال تناولنا للكرمانيين).

كما إنّ تأثيرات الأفغاني في إيران لم تقف عند الجانب الفكري في مظهره الإسلامي أو القومي العلماني، بل امتدت إلى الجوانب السياسية الإيرانية محدثةً أكبر تحوّل في الفكر السياسي الإيراني والذي سيؤدي في النهاية إلى الثورة الدستورية الإيرانية (مشروطيت)، ونقرأ في كتاب علي شلش (جمال الدين الأفغاني بين دارسيه) أن أثر السيد جمال الدين السياسي "انعكس على حركة الجنجال ضد الروس والإنجليز التي قادها ميرزا كوتشيك خان أحد أنصار الجامعة الإسلامية زمن الحرب العالمية الأولى، فقد أنشأ ميرزا وأنصاره أول جمهورية اشتراكية في إقليم جويلان بإيران عام 1920 على هدى أفكار الأفغاني".

لقد دُعي الأفغاني بابن بطوطة العصر الحديث، فقد تنقّل بين (أفغانستان، وإيران، والعراق، والهند، وتركيا، ومصر، وإنكلترا، وفرنسا، وروسيا)، وفي جميع هذه التنقلات نقع على أسماء معارفه وأصدقائه وتلامذته ومناوئيه من جميع الطبقات والجنسيات: الملوك والحكّام، والسياسيين، والمغامرين، والثوريين، والأدباء، والكتّاب، والمشايخ، والعلماء، والمفكرين، والفلاسفة، والمستشرقين. بعض هذه الأسماء نعرفها جيداً ونحيط بها خبراً، وبعضها الآخر يمرّ علينا مرور الكرام، ونحن ههنا ندّعي أن معرفتنا بجمال الدين الأفغاني لا تكتمل إلا إذا قمنا بفحص حياة هؤلاء الأشخاص الذين لا نلقي لهم بالاً، وخاصة من الجنسيات غير العربية ممن لا ندرك حجم تأثيرهم في محيطهم وبيئتهم، ولا نعرف حقيقة التأثيرات المتبادلة بينهم وبين جمال الدين! وهذا ما لم يُستقصَ حتى هذه اللحظة! وكما إنّ هوما باكدامان قالت إنّ الباحثين لم يولوا فترة حياة الأفغاني وإصلاحاته في إيران العناية الكافية، فإننا نقول أيضاً: إنّ معظم فترات حياته الأخرى لم تنل العناية المتوخاة، ما خلا فترة مصر، التي نعرفها من خلال تلامذته العرب المباشرين، وكتاباتهم عنه، وذكرياتهم وانطباعاتهم حوله، أما فترة حياته في الهند مثلاً فنعرفها معرفة مجملة. نعرف أنّه زارها أكثر من مرة، وأنّه سكن في حيدر آباد آواخر سنة 1881، ثم انتقل إلى كلكتا وأقام فيها عدة أشهر، وأنّه اعصوصب به الشباب المثقّف والتفّوا حوله، وفُتنوا به إلى درجة أن المستشرق بلنت قال عنهم: إنّهم كانوا يؤلّهونه! لكننا لا نعرف، بالتفصيل، رأي هؤلاء الشباب الهنود فيه، ولا أثره بهم، ولا قصصه معهم! وسوف نظل ننتظر باحثاً هندياً أو غير هندي حتى يزيح عنهم السواتر المنسدلة، ويخبرنا خبرهم، ويغني لنا معرفتنا بهم في مرحلة حاسمة من تاريخ الهند، ويثري معرفتنا بالأفغاني في مرحلة مهمة من مراحل حياته، إذ لا بدّ أنهم كتبوا عن أستاذهم المؤثّر فيهم غاية التأثير، ولا سيما أنّه ألّف هنالك رسالته (الرد على الدهريين)، ونشر عدة مقالات باللغة الفارسية في مجلة (معلم شفيق)، وخاض نزاعاً مشهوداً مع السير أحمد خان أعظم شخصية إصلاحية في الهند في العصر الحديث.

وكذلك تحتاج فترة حياته في إسطنبول مزيداً من التأمل، ففي زيارته الأولى في سنة 1870 ارتبط بأنصار الحداثة العثمانيين من الوزراء وكبار المسؤولين: الوزير فؤاد باشا، والوزير عالي باشا، وتحسين أفندي مدير الجامعة الجديدة (مدرسة الفنون) التي استمرت سنة ثم أُغلقت، وضيف أفندي رئيس مجلس المعارف الذي عيّن الأفغاني عضواً في المجلس في تلك السنة، وإسماعيل بك وهبي مفتش دار سك العملة، ومن أجل فهم الأفغاني أكثر يجب أن نحيط خبراً بخيوط هذه العلاقات وبطرق تفكير هؤلاء الأشخاص، وبمدى تأثيرهم بالأفغاني وربما تأثّرهم فيه ما دمنا نتكلم عن موقظ الشرق من سباته العميق، ومؤذِّن نهضته المأمولة. أما في زيارته الثانية إلى إسطنبول سنة 1892 فكانت شبكة علاقاته مختلفة، وسوف نتحدث عنها بتفصيل أكثر في الجزء الثاني من المقال.

إنه الاستثنائي الذي بدا ملغزاً لمعظم الباحثين، وضاراً لكثير من رجال الدين، وصيحة روح متمردة لكل الشباب النابهين، وشيئاً خطيراً لكل الحكام والسلاطين، لذلك كان فهمه فهماً واقعياً أمراً مهماً وآكداً، فهو الُحجرة الأساسية في القبو الذي انطلقت منه خلطتنا الإسلامية بما فيها من صفاء وعكر وإيديولوجية وبراغماتية وثورية وحرقة ونزق وتسرّع وتخبّط وتلفيق والتفاف.