جذور الاستبداد في الفكر العربي

2020.01.24 | 23:02 دمشق

lwhtallmaalrb1988-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

كانت مساهمة العرب في فهم الاستبداد، وفي مناهضته، مساهمة ضئيلة ومتأخّرة نسبياً، بالرغم من إرهاصاتهم السابقة في هذا المجال. كانت المسألة تُعالج من وجهة نظر تحاول دفع الظلم بالمناداة للعودة إلى حظيرة الشرع- القانون، ولم يكن الاستبداد ليُدَرك إلا بتلمس غامض في ممارسات الأمويين والعباسيين؛ ثم تطوّر الوعي بحيث أصبح من الممكن التفريق بين ما هو ديني وما هو سياسي. وقد تزامن ذلك مع دخول مفاهيم الحرية السياسية وأفكار مقاومة الاستبداد مع الاجتياح الأوروبي والبعثات العربية، وإن جرى ذلك –في البداية- باستحياء.

لقد كان الخلفاء الراشدون يعدّون أنفسهم خلفاء النبي في تسيير أمور الرعية، وخطَبهم علاوة على ممارساتهم، تدل على ذلك. فهذا (أبو بكر) في خطبة له يقول: ((أيها الناس، إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسدّدوني..)). ولما انتزع (معاوية) الخلافة من علي بدأ أنصاره يطالبون بإعادتها إليه زاعمين أنها حق إلهي، وصار هذا القول، بعد ذلك، أصلاً من أصول العقيدة عند الشيعة. لكنّ في المسلمين من لا يوافق على كون الخلافة منصباً يُنيب فيه الله أحداً من عباده عنه، بل يرون أن أمرها منوط بالمسلمين كافة، يختارون لها من يجدونه أهلاً للقيام بشؤونهم العامة(2). لكن الذي حدث مع توسع الفتوحات الإسلامية هو دخول جماعات مختلفة الأجناس والثقافات، وبدأت تتبلور مجموعة أفكار سياسية مكونة من:

1- التقاليد القبلية السابقة على الإسلام.

2- النظريات السياسية الهيلنستية والفارسية.

فضلاً عن الأفكار السياسية الإسلامية الأولى. فتشكلت ثلاث صيغ أساسية تنص جميعها على تطبيق الشريعة، والمحافظة على الإسلام والدفاع عن مذهب السنّة والجماعة ضد الكفر:

- الأولى هي صيغة الفقهاء التي تتكوّن من آيات القرآن الكريم التي تتعلق بالفكر السياسي، ثم سنّة الرسول، ثم ممارسات الخلفاء الراشدين، ومن تفسير تلك الأصول في ضوء التطورات اللاحقة، مع الإيمان بأن الله هو الذي يوجد الأمة وبأن الأمة لا تجتمع على ضلال.

- والثانية وضعها رجال الإدارة وموجهو الحكّام والولاة، وهي تؤكد الحق الإلهي في الحكم، وتهتم بممارسات السياسة أكثر من نظرياتها، وتمزج قواعد الحكم الإسلامي بتقاليد الفرس في المُلك.

- أما الثالثة فهي الصيغة التي وضعها الفلاسفة، وتدين بالكثير للفلسفة اليونانية، وتوّحد بين الإمام والملك والفيلسوف.

وعلى الصيغة الثانية اعتمد الأمويون في توطيد حكمهم، مستندين

في العصر الأموي ساد الحكم المدني باسم الدين، حيث أضحت الخلافة في عهد الأمويين أقرب إلى السياسة منها إلى الدين، واستحالت على يد معاوية، إلى مُلك موروث

إلى النزعة الجبرية التي تقول: ((إن الإنسان ليس يقدر على كل شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله ولا قدرة له ولا اختيار، وإنما يخلق الله الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتُنسب إليه الأفعال مجازاً كما تُنسب إلى الجمادات)) ، ورأوا أنها تساعدهم في تنفيذ مآربهم السياسية، لذلك بثّوا روح الجبرية على ألسنة شعرائهم. ففي العصر الأموي ساد الحكم المدني باسم الدين، حيث أضحت الخلافة في عهد الأمويين أقرب إلى السياسة منها إلى الدين، واستحالت على يد معاوية، إلى مُلك موروث، متأثرة في ذلك بالنظام الذي كان سائداً في الدولتين: البيزنطية والفارسية.

لقد استعمل الأمويون لفظ (الوالي) و(الأمير) بدلاً من (العامل) دلالة على السلطة التي أصبح يتمتع بها العمال، فبدأ استبداد الولاة مع (الحجّاج) الذي استعمله (عبد الملك بن مروان) فاضطهد الموالي، مما ساعد على سقوط الحكم الأموي الذي وجد نفسه مفتقراً إلى حجة يتذرع بها لإثبات شرعية خلافته، بعد تخلّيه عن الشورى وقيام معارضة عنيفة في وجهه، فراح يستعين بالشعراء.

ومن أهم مميزات الخلافة الأموية هي:

1- حكم الفرد والبعد عن الشورى وعدم مسؤولية الخليفة أمام الشعب.

2- الحكم الوراثي وانحصار الخلافة في البيت الأموي.

3- تصرّف الخليفة بأموال الدولة لصالح حكمه.

4- التمييز بين المواطنين.

5- قلب الخلافة إلى ملك دنيوي ينغمس فيه الخليفة في مظاهر الترف واللهو.

6- الاعتماد على القوة والبطش في توطيد الملك ومحاربة الخصوم.

وعلى النهج نفسه سار العباسيون، فالحكومات الأموية

الفكر العربي عرّف الاستبداد بأنه غياب القانون والكف عن المشورة، وهذا ولا شك جانب مهم من جوانب الاستبداد، لكنه ليس الجانب الوحيد

والعباسية هي أنظمة طغيان، حيث لم يكن للشعب حق الحد من سلطة الحاكم لأنه غير مسؤول أمام أحد.

إننا، حتى الآن، نلاحظ أن الفكر العربي عرّف الاستبداد بأنه غياب القانون والكف عن المشورة، وهذا ولا شك جانب مهم من جوانب الاستبداد، لكنه ليس الجانب الوحيد لأن الاستبداد كثيراً ما يظهر في ظل القانون مرتدياً ثوب المشورة المزيّفة والتداول المصطنع، وقد أدرك ذلك بعض مفكرينا، وإن درجات متفاوتة من الوعي.

كما لم تغب عن أذهانهم أنواع الاستبداد (وإن بشكل ضبابي) مهما اختلفت أسماؤه. فقد لاحظوا التفاوت في الثروة بين أفراد الأمة، والفساد الاجتماعي القائم، وأشكال التسلط الفكري التي يمارسها بعض المتعمّمين، والشلل التربوي الذي أصاب مجتمعا، وحظّر كل أنواع الحرية وتسمياتها، لاحظوا ذلك كله، وأطلقوا عليه أسماء مختلفة وأوصافاً عدّة، واتّفقوا على وجوب التغيير والإصلاح.

إن مفكّري اليقظة العربية، بدءًا من (الطهطاوي)، وإن اختلفت أساليبهم في الإصلاح، إلاّ أنهم اقتربوا كثيراً من وصف الدّاء بأنه الاستبداد. وكان لابد من بعض الوقت إلى أن يأتي الجيل الثّاني للروّاد الأوائل فيدفع بالفكرة قدماً لتصبح أكثر نضجاً ووعياً.

كلمات مفتاحية