جدليّة المصالح!

2019.05.11 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

السياسة ليست مقدّسة، فكلّ شيء يتغير حسب المصالح والظروف وتطورات الأحداث وتقلباتها، فهي لا تتقيد بقواعد وأصول ثابتة مثل الدين والأخلاق، ولا تتوقف عند نقطة واحدة معينة، بل تسير في اتجاهات عدة خلف أهداف واضحة، تضمن للدولة أو النظام القائم تحقيق مكاسب ومصالح معينة، إذن السياسة هي لعبة مصالح وليست ثارات ونزاعات عصبيّة، فضلاً عن كونها لا تعادي أي دولة (بالكامل) على أثر عاطفيّ أو صراع فكريّ، فصديق صديقي عدوي، وعدو عدوي صديقي، هكذا السياسة! والحديث عنها يطول، حيث يمكن القول: "هي الوصول للغاية بعدة وسائل وإن كانت غير مشروعة!"

ولأنّ الغاية تبرر الوسيلة، موسكو تتأهب إعلاميّاً ولوجستياً لمعركة إدلب، ومن المعروف أنّ العمل العسكري يسبقه (إرهاصات، تعزيزات وتجهيزات)، وهذا ما جاء في التقرير الاستراتيجي السوري "قيام القوات الروسية في (21 مارس 2019) بنقل مقاتلات هجومية وقطعات بحرية إلى قاعدتي حميميم وطرطوس، مما يدل على نية موسكو في شن عمليات قتالية في الأسابيع المقبلة " ومن ضمن القطعات البحرية (غواصات حربيّة) تعمل على الكهرباء والديزل، وبالتزامن مع كلّ الحشود، قام خبراء عسكريون روس بتقديم تدريبات لقوات النظام على الأسلحة والمعدّات المتطورة كالصواريخ المضادة للدروع، كما وأعلنت وزارة الدفاع الروسية عن تجريب طائرة هليكوبتر من طراز( Mi-28NM) ويطلق عليها اسم صياد الليل".

كانت الغارات الجوية بمثابة رسائل ضغط لتحوير ما نصت عليه اتفاقيات سوتشي وأستانة مع الأطراف الثلاثة (تركيا، إيران، روسيا)، وبالنسبة لرسائل الضغط فقد باتت واضحة للعيان، من خلال الضغط على الفصائل الثوريّة لأجل جرّهم في الدخول إلى مفاوضات المصالحة مع نظام الأسد وتسليم إدلب

في حين بدأ القصف الجوي على مناطق خفض التصعيد أوائل أبريل / نيسان، والذي أسفر عن قتل العشرات من المدنيين، كانت الغارات الجوية بمثابة رسائل ضغط لتحوير ما نصت عليه اتفاقيات سوتشي وأستانة مع الأطراف الثلاثة (تركيا، إيران، روسيا)، وبالنسبة لرسائل الضغط فقد باتت واضحة للعيان، من خلال الضغط على الفصائل الثوريّة لأجل جرّهم في الدخول إلى مفاوضات المصالحة مع نظام الأسد وتسليم إدلب في آخر الأمر، ومن جهة أخرى الضغط على الضامن التركي بهدف سحب العملية السياسية نحو التفاوض على ملف شرق الفرات، وتتمة الإجراءات فيما يتعلق باللجنة الدستورية، عدا عن صفقة الصواريخ الروسية S400، لأنّه من الممكن أن يتراجع الأتراك عن صفقة الصواريخ تلك، كما ومحاولة الروس في توتير العلاقة بين الطرفين الأمريكي والتركي، وفي الطرف المقابل تركيا لا ترغب في تأزيم الوضع في إدلب خشية على أمنها القومي، حيث لم تعد تستوعب موجات لجوء جديدة .

ومن الواضح في نهاية الأمر روسيا لا يهمها رأس النظام السوري في أن يسترد باقي أجزاء سوريا وإخضاعها تحت سيطرته!

فهو عبارة عن نصف ورقة يستفاد منه في إطار الضغط عليه لتوقيع صفقات البيع والتنازل (التي لم تتوقف بعد) عن الأراضي السورية الغنيّة بمواردها وبمرافئها، وللإشارة بمكان _ غالباً يفكر المحتلّون والمستعمرون بعقليّة "كلما زادت الرقعة الجغرافية كلما زادت نسبة سيطرتهم عليها"، وفي سوريا من السهل تنازل الأسد عنها وبيعها بكل بساطة!

وللحديث أكثر حول التّصعيد العسكري الروسي على إدلب، يمكن القول لن تستطيع روسيا أن تحسم الأمور عسكرياً لصالح النظام السوري، لأنّ ملف إدلب يشترك فيه كافة الفواعل الدولية الحكومية وغير الحكومية، والأخيرة يقصد بها (فصائل المعارضة والثوار وهيئة تحرير الشام) لذلك تعدّ إدلب أرضاً لتصفية الحسابات وعقد البازارات فيما بينهم، وأمّا ما يصرح به في وسائل الإعلام عن محاربة المسلحين الإرهابيين (هيئة تحرير الشام/النصرة سابقاً) فمسألة تفتيتهم وزوالهم ليس صعباً لا على الولايات المتحدة ولا حتّى على الأتراك، لأنّ وجودهم في إدلب أشبه بوجود بشار الأسد في الحكم، على الرغم من اختلاف مستويات وآليات المهمة الوظيفية، وللتأكيد إنّ رأس النظام "بشار الأسد" هو موظف عند الإيرانيين والروس ولكن بصفة حاكم لبلد مستباح ومنتهك. أمّا عن الدوريات المشتركة الروسية/ التركية في المنطقة المنزوعة السلاح، كانت بناءً على قرارٍ اُتخذ في محادثات الآستانة الأخيرة، لكن تمّ رفض القرار من قِبل الفصائل الثوريّة (العسكرية) وهذا حقّ طبيعي، وبالنسبة لتركيا فهي ليست ممنونة وغير متحمسة لقرار المشاركة، والسبب متوقف على الاعتراف بالمنطقة الآمنة التي طرحتها تركيا سابقاً في مؤتمر سوتشي، وأيضاً جاء رفض تركيا للدوريات المشتركة ضمنياً _وغير معلن_ نتيجة تعطيل تقدمها من قِبل روسيا في منطقة تل رفعت بريف حلب فيما مضى والتي كان من المفترض أن تكون العملية على منوال عملية غصن الزيتون !

وأمّا ما يصرح به في وسائل الإعلام عن محاربة المسلحين الإرهابيين (هيئة تحرير الشام/النصرة سابقاً) فمسألة تفتيتهم وزوالهم ليس صعباً لا على الولايات المتحدة ولا حتّى على الأتراك

والسؤال المطروح هنا: هل ستنجح روسيا من خلال تصعيدها العسكري على إدلب بتحقيق غاياتها؟

تبدد الغموض حول الرئيس الروسي فهو يسعى لبناء قطب روسي ومعه أذرعه المتحكمة في الشرق والغرب، والولايات المتحدة الأمريكية متيقظة له تماماً، لذلك تلجأ الأخيرة إلى فرض عقوبات بشكل دوري والتضييق عليه اقتصادياً، لهذا كلّ غاراتها الجوية على إدلب مؤقتة، وذلك للاعتبارات التالية:

إدلب آخر منطقة من مناطق خفض التصعيد وآخر معقل للثوار وللمعارضة السورية، فرمزية الثورة تكمن فيها، كما ويقطن على أرضها قرابة أربعة ملايين سوري، فهذا العدد من السوريين يجعل تركيا متوجّسة بشأن التّخلي عن إدلب، ورغم كلّ القصف (المكثف والعنيف)، هناك تفاصيل تدعو للنّظر بعين الواقعيّة، فموسكو تسلك طريق الحرب النفسيّة والضوضاء الإعلامية، من أجل تمكين وجودها على الأرض السوريّة بعد حصولها على مرفأ طرطوس لمدة 49 عاما، وسعيها الدؤوب بانتزاع مكاسب إضافية من وراء هجومها على إدلب سواء من الضامن التركي أو قرار دولي يوقع عليه من هيئة الأمم المتحدة، مثل صفقات التّسليح، أو شيكات مفتوحة من صندوق النقد الدولي لتمويل مشاريعها الكبرى، خصوصاً مشروع حقّ التنقيب عن النفط في الجزء الشمال الشرقي من أراضيها (سيبيريا)، أخيراً لن تنسى روسيا جرحها الغائر في سقوط الإتحاد السوفيتي، لذلك نسمع اليوم عن محاولاتها في حشر أنفها في دعم "خليفة حفتر" عسكرياً في ليبيا أملاً منها في أن تكون وجهاً بوجه الولايات المتحدة الأمريكية!