جبهة النصرة في حلب.. البدايات

2020.03.17 | 23:01 دمشق

dd371cf6-c7d4-47f3-b5e0-da9f8f964c22_16x9_1200x676.jpg
+A
حجم الخط
-A

دخل الثوار حلب في تموز عام 2012 مطلع شهر رمضان المبارك من محوَرين، انطلق أولُهما من منطقة أرض الحمرا التي تجمّع فيها ثوار ريف حلب بقيادة لواء التوحيد الذي أعلن عن بدء تحرير المدينة باسم "معركة الفرقان"، فيما انطلق الآخر من حي صلاح الدين عندما حمل بعض أبناء حلب سلاحهم يوم الجمعة 20-7-2012 معلِنين الحيّ محرراً، لتتحرّك المجموعات في قوسين التقَيا عند مخفر الصالحين، وليتحررَ ثلثا المدينة تقريباً بشكل حرف U، بينما احتفظ النظام بسيطرته على الأحياء في الوسط.

شكّل لواء التوحيد القوة الرئيسية العاملة في مدينة حلب آنذاك، رغم ظهور تشكيلات أخرى في المدينة من أبناء الريف كان أبرزها لواء الفتح ولواء أحرار سوريا، مع وجود عدد جيّد من الثوار الذين نظّموا أنفسهم ضمن كتائب صغيرة تُعلِن انتماءها للجيش الحر، وتعمل بشكل مستقلّ سواء من قاطني المدينة أو من أبناء الريف الحلبي، لكنّ عدم وجود تحالفات كبيرة بين تلك الكتائب، واعتماد كثير منها في التذخير على لواء التوحيد بدايات التحرير، حافظ على مركزيّته في المدينة.

المدرسة الشرعية

اتّخذَت عدد من الكتائب المستقلّة العاملة على جبهات حي صلاح الدين ومحيطه في المدينة من المدرسة الشرعية في الحي مقرّاً مشتركاً لها، مع انتشار كتائب أخرى في بعض المنازل والمنشآت في الحي، لكن "الشرعيّة" بقيت مركز العمل العسكري فيه.

لم يكن قد مرّ أسبوعان على دخول الثوار إلى المدينة عندما زُرتُ برفقة مدير المكتب الطبي في تنسيقية جامعة الثورة مقر المدرسة الشرعية للمرة الأولى، وذلك بغية عرض مساعدتنا عليهم إسهاماً في معركة التحرير.

عند دخولنا إلى المدرسة استقبلَتنا غرفة الإدارة، والتي كان يتّخذ منها "أبو حيدر" مكتباً له، وأبو حيدر قائد مجموعة عسكرية مُشكَّلة من عدد من ثوار المدينة وريفها، كنا قد التقيناه سابقاً في الطريق إلى إعزاز خلال معركة تحريرها، عندما كان يحمل جثمان أحد شهداء مجموعته إلى قريته في الريف الشمالي، برفقة "أبو أحمد خطاب" من مجموعة (أبو عمارة).

اقرأ أيضاً .. "ريف حلب الشمالي مُحرَّراً.. الجزء الثاني" 

كان واضحاً بالنسبة إليّ اهتمام أبو حيدر بما يمكن أن يقدِّمه صديقي الطبيب أكثر بكثير من حديثي عن الإعلام، لذلك غادرت الغرفة متجوّلاً في المدرسة ريثما ينهيان حديثهما.

في المدرسة توزعَت الكتائب على بنائها ذي الطابقين المفتوح على بهو داخلي، بحيث شكّل كلّ صف من صفوف المدرسة مقرّاً لإحداها، أما في غرفة المسجد في الطابق الأرضي والتي ربما كانت المكان الوحيد الذي شاهدتُه في المناطق المحررة مبَرَّدَاً بجهاز تكييف موصول على مولّدة، فقد افترش الثوار أرضه متوسّدين جعبهم ومحتضنين سلاحهم ينعمون بقيلولة في ساعات الظهيرة الحارقة.

وعلى أبواب الصفوف في المدرسة وضَعَت الكتائب أسماءها تعريفاً بمقرّاتها، فكنتَ تقرأ عليها أسماء (كتائب أبو عمارة – كتيبة التوحيد.. وغيرها من المجموعات المحليّة)، إلا أنّ اسماً كُتِبَ على جدار أحد الصفوف في الطابق الثاني كان أكثر ما لفَت نظري، حيث ضمّ ذلك الصف عناصر ملتحين -كأغلب الثوار آنذاك- ارتدى معظمهم "باكستانيات"، وكان واضحاً أنّ بعضهم ليس سورياً!

جبهة النصرة في حلب

تلك كانت المرة الأولى التي أقابل فيها مجموعة من "جبهة النصرة"، رغم حضوري لمعركة تحرير إعزاز على الحدود السورية التركية قبلها بأسابيع، والتي احتَشَد فيها معظم ثوار الريف في عملية فاصلةٍ أسفرَتْ عن خروج أغلب ريف حلب الشمالي عن سيطرة نظام الأسد.

كانت النصرة قد اكتسبَتْ شهرةً واسعة آنذاك بسبب بعض العمليات التي نفّذَتها على مدار النصف الأول من عام 2012، والتي اتّسمَت بالتخطيط والتنفيذ الدّقيقَين، وضربها لأهداف ثمينة لنظام الأسد.

ورغم سعي النصرة منذ البداية للتمايز عن جموع الثوار الآخرين، بامتداد مجموعاتها على أكثر من محافظة، واللباس المختلف ومنع التدخين بين صفوفها، والطاعة المطلقة من العناصر لقائدهم، على عكس مجموعات الجيش الحر التي تجدُ فيها "الكلفة مرفوعة" بين المقاتل وقائده، الأمر الذي أدّى في كثير من المعارك إلى حالةٍ من الفوضى كارثيّة النتائج، إلا أنّ عناصر النصرة كانوا يبادرون  بالودّ -غالباً- المقاتلين من مجموعات الجيش الحر، وهو ربما ما أكسَبهم مكانة مميّزة بين المقاتلين من مختلف الكتائب، فضلاً عن تركيزهم على النشاط الدعوي بين مجموعات الثوار آنذاك، فندر أن تجد جبهة عسكرية تخلو من أحد شرعيّي النصرة يحمّس الثوار ويجيب عن أسئلتهم التي تفرضها ظروف الجهاد.. وبالتأكيد يبشّر بالمنهج السلفي الجهادي! وسط حالة من ضعف التواجد الكبير لمشايخ بغير الفكر السلفي الجهادي، من أبناء ما يسمى اصطلاحاً بالمدرسة الشامية.

وهو ما دفع عدداً لا يستهان به من مقاتلي مجموعات الجيش الحر لطلب الانتساب إلى جبهة النصرة، والتي كانت سياستها آنذاك انتقائيّة جداً، حفاظاً على صورتها كجماعة نخبويّة تضم أشرس المقاتلين، وأكثرهم التزاماً دينياً وأخلاقياً، وقد كان ذلك حقيقياً إلى حدٍّ ما، إذْ أذكر تماماً رفضها في المدينة عدداً ممّن تقدّموا للانتساب إليها بسبب ما اعتبروه سمعة سيئة، كما كانوا حريصين على رفض ضمّ المجموعات إليهم، واقتصر قبولهم بمقاتلين جدد على من يأتون فرادى، مما ساهم إلى حد بعيد في تماسك بنيتها الداخلية، التي كانت تستقبل الأفراد وتعيد تشكيلهم وفق قناعات الجماعة، بعددٍ من المعسكرات التي كان يغلب عليها الطابع الشرعي، أكثر بكثير من العسكري.

شيئاً فشيئاً تموضعَت النصرة تماماً في المكان الذي اختارته لنفسها، ليس كفصيل من الفصائل، بل كمرجعيّة لها، وأصبح شائعاً أن تجد كتائب المدينة تتّجه إليها كطرف ثالث للفصل بينها فيما ينشأ من خلافات.

كل ذلك إضافة إلى حرص النصرة في المدينة -آنذاك- على الالتزام بجبهات الرباط شأنها في ذلك شأن كتائب الجيش الحر، وصرامتها الشديدة مع منتسبيها في حال إقدام أيٍّ منهم على تجاوز يخالف تعاليم الجماعة، ومحاسبة المسيء علناً أمام الأشهاد، مع الحالة المؤسفة من التجاوزات لبعض مجموعات الثوار في المدينة بحق المدنيين والممتلكات بسبب غياب آليّة محاسبة وضبط، صنَعَ للنصرة سمعة طيبة في أوساط الثوار والمدنيين على حد سواء، مساهماً إلى حد بعيد في تحوّلها في فترة بسيطة من إحدى المجموعات قليلة الأعداد في المدينة، والتي كانت تتّخذ من صفٍّ في المدرسة الشرعية مقراً لها، إلى واحدة من تشكيلات حلب الأساسية أواخر عام 2012، منافسةً لواء التوحيد على مركزيّته في المدينة!

 

حتى وصل الأمر إلى تأسيسها أول كيان حكومي عام في القسم المحرر من المدينة برفقة لواء التوحيد وأحرار الشام، في تشرين الثاني من عام 2012، والمعروف باسم "الهيئة الشرعية".

ومع دخول عام 2013 كانت قوة النصرة ونفوذها يتزايدان في المدينة، فتوسّعَت أعدادها، وكَثُرَت مقراتها/ وبدا أنّ النصرة ستُحكِم سيطرتها بشكل كلِّي على القسم المحرر من المدينة؛ لكنّ الإعلان عن تشكيل "تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام" والمعروف اختصاراً باسم "داعش" في النصف الأول من عام 2013، أنهى تلك الأحلام.

حيث خرجَ التنظيم من رحم جبهة النصرة وارثاً معظم مقرّاته ومؤسّساته وجلّ مقاتليه في حلب، لتتحوّل جبهة النصرة إلى ما يشبه حالتَها عندما دخلَت إلى المدينة، مُنكفِئَةً على نفسها في مقرّين بقيا لها وبعض نقاط الرباط المُتوزّعة في المدينة، منتظرةً معجزة تنتشلها من حالة ضعفها، جاءَت أخيراً مطلع عام 2014 بأيدي ثوار الجيش الحر الذين قادوا معركة تحرير حلب من تنظيم داعش، سامحين للنّصرة بـ "التنفّس" مجدّداً..

لكن تلك قصة أخرى.