ثورة النساء ضدّ محاكم التفتيش في إيران

2022.10.04 | 05:55 دمشق

ت
+A
حجم الخط
-A

كان لعمليات القمع الوحشية التي شنتها محاكم التفتيش المسيحية على البشر المغايرين في طريقة تفكيرهم، وعلى أولئك المختلفين في دينهم من المسلمين واليهود، وعلى المسيحيين المغايرين في المذهب من البروتستانت، أثرٌ ملحوظٌ في ابتعاد أوروبا لاحقاً عن نمط التفكير الديني، واقترابها أكثر من أشكال مغايرة، أخذ منظرو الفكر السياسي والاجتماعي يطلقون عليه فيما بعد عمليّات العلمنة. ساهمت الاكتشافات الجغرافية وتقدّم البحوث العلمية كثيراً في هذا التحوّل، وكان للفلسفة التي استطاعت أن تهضم هذا الناتج الإنساني المتزايد والخروقات الكبيرة لشكل التفكير الديني المتحجّر عند تعاليم المؤسسة الكنسية، وأن تحوّله إلى أنماطٍ جديدة من التفكير، تبتعد عن التسليم بمقولات الكنيسة وعن جوهر الإيمان المسيحي المرسخ بتعاليم بالية عفا عليها الزمن وعافتها الأنفس التوّاقة للحرية والعقول المنفلتة من إسار الضبط والقولبة القروسطية، كان لها أثر بالغٌ في هذا التحوّل.

سمّي ذلك بعصر الأنوار وبعصور النهضة الفكرية لاحقاً، وكان لعداء الكنيسة لأي محاولة لكسر نمطيّة التفكير المرسخة من قبلها، وكان لاشمئزاز المفكرين والفلاسفة والمبدعين من هذا القسر والإرغام باسم اللاهوت، أثر كبير في اعتبار الدين قيداً على العقل وأغلالاً تكبّل الروح الإنسانية، بدل أن يكون وسيلة لتحررهما من ضيق الواقع إلى رحابة اللامتناهي، وآفاقاً تفتح لهما أبواب التأمّل بعظمة الخالق والتمتّع بجمال خلقه والتفكّر بروعته وإبداعه. لقد كانت كلمة السرّ في كلّ ذلك هي الحريّة، فكانت ثورة الإنسان على ذاته، وعلى القيود التي فرضتها مصالح مؤسساتٍ أنتجها لخدمته، فإذا بها تتحوّل مع الزمن إلى سيّد يستعبده ومالك يسترقّه. جاءت ثورة الإنسان تلك بالجديد الخارج عن السيطرة، فأبدعت مفاهيم برّاقة وثوريّة مثل الديمقراطية والليبرالية، ولاحقاً حقوق الإنسان. ورغم أنّ هذه القيم ذاتها بدأت تتعرّض للنقد وإعادة الفحص منذ عدّة عقود تحت تأثير الإحساس بإفراغها من مضامينها لصالح قلّة من البشر تتحكم بالاقتصاد وبالسياسة وبالفكر حتى، إلا أنها ما تزال نموذجاً يتطلّع إليه الناس في دول العالم الثالث، الذين لم تتح لهم الظروف خوض غمار هذه التجربة بكلّ أبعادها.

كانت مشاركة النساء كبيرة جداً في المظاهرات والاحتجاجات التي سبقت نجاح الثورة الإسلامية في إسقاط حكم الشاه في إيران عام 1979، لكنهنّ كنّ أكثر ضحايا نظام الحكم الثيوقراطي الجديد تعرّضاً للقمع والقهر والاستعباد.

كانت مشاركة النساء كبيرة جداً في المظاهرات والاحتجاجات التي سبقت نجاح الثورة الإسلامية في إسقاط حكم الشاه في إيران عام 1979، لكنهنّ كنّ أكثر ضحايا نظام الحكم الثيوقراطي الجديد

ألغى النظام الجديد قانون حماية الأسرة، وفقدت المرأة حقها في العمل بالقضاء، ثم باتت ممنوعة من السفر قبل الحصول على موافقة وليّ أمرها الرجل، وفقدت حقها في تطليق نفسها وفي اكتساب حضانة أطفالها، ثمّ أجبرت جميع النساء على ارتداء الحجاب حتى غير المسلمات منهنّ.

لقد عاد النظام الجديد في إيران بالنساء إلى عصور الظلمات في ابتداعه تطبيقات للشريعة الإسلاميّة تبتعد عن جوهرها الإنساني الرحب، وتحشرها في خانة ذكوريّة متماهية مع السلطة الزمنيّة الجديدة التي أخذت حصانتها من تلبّسها ثياب المقدّس.

لقد أتت سلطة الملالي بعكس مقاصد الشريعة الإسلامية، فخلقت نمطاً من الاستبداد مرسخاً بفهم منحرف للدين يفصل بين مقاصده الكليّة والجوانب الأخلاقية فيه وفي أي دين، بهدف تعزيز سلطة فئة ذكوريّة محددة على المجتمع عموماً وعلى مجتمع النساء خاصّة.

تأتي ثورة النساء الراهنة في إيران لتدقّ إسفيناً في جوهر نظام حكم الملالي، فلم تعد الأسباب السياسية والاقتصاديّة هي المحرّك الوحيد لهذه الثورة، بل إنّ جوهر المعارضة الآن يركّز على مجموعة القيم المؤسسة للنظام ذاته. ثورة النساء الآن، تختصر رفض الإيرانيات لنموذج التفكير الذكوري الأحادي الجانب، ونظام الحكم العسكري المغلّف بعباءة دينية رديئة، والمنغلق على مصالح فئة مجتمعيّة محددة استطاعت نقل الثروة والسلطة من يد الشاه إلى يد الملالي. تضرب هذه الثورة، بما تحمله من أبعاد فكريّة عميقة تقطع مع احتكار الذكوريّة السلطوية الدينية لفهم الحياة وسنّ قوانينها، بيد من حديد عصب النظام الإيراني وحبله الشوكي. إنها تحارب ليس فقط السيطرة السياسية والأمنية والعسكرية لفئة من الإيرانيين على بقيّة الشعب، وليس فقط تحاول الوصول إلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي أكثر ديمقراطية وعدالة وحريّة، بل هي تنسف من الجذور الفلسفة التي يقوم عليها النظام، أي الحق في تصنيف البشر وترتيب حيواتهم وتوجيه تفكيرهم ومصادرة أحلامهم.

لم يعد بمقدور الإيرانيات تحمّل هذا الظلم المركّب، مرّة أولى مع المقهورين من الرجال بعسف نظام الاستبداد، ومرّة ثانية من هؤلاء ذاتهم إذ يتقمّصون دور الجلاد الذي لا يقوون على الوقوف بوجهه، ومرّة ثالثة في مواجهة الفكر المسيطر والذي تحمله أيضاً بعض فئات النساء ذاتهنّ.

إنّها ثورة بوجه الظلم والاستعباد، وهي طريقٌ لخلاص الإيرانيات والإيرانيين وليست لهم فقط، بل هي بداية زلزلة عروش الاستبداد في الشرق كلّه إن قُيّض لها النجاح. ستكون انعكاسات هذه الثورة هائلة على مجتمعات محليّة قريبة ومشابهة في البنية والتاريخ، حتى وإن كانت ظروفها التي تعيشها مختلفة بشكل أو بآخر. سيمتد أثر ثورة النساء الإيرانيات إلى كل المنطقة آجلاً أم عاجلاً، من الهند إلى باكستان وأفغانستان ودول وسط آسيا، وستؤثر في مجتمعاتنا العربية أيضاً. ولولا أنّ بعض الأنظمة العربية التي تحمل نفس الطابع وتقوم على نفس الجوهر قد أدركت ضرورة التغيير والانفتاح مبكراً وعملت عليه، لكانت عروشها مهددة أيضاً بثورات مماثلة في الجوهر وإن كانت مغايرة في الشكل. إنّها ثورة النساء الإيرانيات ضدّ محاكم التفتيش، وستتبعها ثورات كثيرة ضدّ أنظمة التسلّط على الفكر والعقول والضمائر والأرواح، وقد يكون السبق هذه المرّة للنساء الشرقيات إذ يصنعن التغيير، على نساء الغرب اللواتي استفدن منه في أوروبا دون أن يساهمن به بشكلٍ فعّالٍ وكبير يتناسب وحجم شريحتهنّ المجتمعية ومظلوميتهنّ آنذاك.