ثورة اللبنانيّين التي لم تعد ممكنة

2023.01.21 | 06:58 دمشق

ثورة اللبنانيّين التي لم تعد ممكنة
+A
حجم الخط
-A

مارست القوى الأمنيّة اللبنانيّة تنكيلاً عنيفاً وشرساً ضد المحتجين على توقيف وليم نون شقيق شهيد تفجير مرفأ بيروت جو نون على خلفية مشاركته في أعمال شغب، نتج عنها تحطيم بعض الألواح الزجاجيّة في قصر العدل.

ما شاهده اللبنانيّون على الشاشات كان فاقعاً لناحية دلالته على منطق السطوة الأمنيّة التي لا تقيم اعتباراً لأحد، إذ لم يتورع العسكر عن ضرب رجال الدين والنساء، والاعتداء على مرافقي النواب والصحفيّين.

انتهت المسألة بالإفراج عن وليم بعد تدخلاتٍ سياسيّة وحقوقيّة، وكان أبرزها التدخل المباشر للبطريرك الماروني بشارة الراعي، وبعدها عاد السؤال حول عودة ثورة اللبنانيّين إلى الواجهة بصيغة اتهاميّة تميل إلى تحميل عموم الناس المسؤوليّة عما آلت إليه الأمور.

الخلل الفظيع في هذه المقاربة يتأتى من اجتماع سلاسل من الافتراضات الخاطئة.

أولها الانطلاق من أن اللبنانيّين يمثلون شعباً متجانساً تتطابق مصالح وهموم ومشاريع جميع أبنائه، بينما يصعب العثور على أيّ درجة من التجانس في بنية المجتمع اللبناني حالياً، حتى إذا اعتمدنا معايير الولاءات الدينيّة والطائفيّة.

القول بوجود شعب لبناني بسمات عامة مشتركة مقولة كاريكاتوريّة أمام واقع اللبنانيين الذين تحولوا إلى شعوب متناحرة بثقافات مختلفة ومرجعيّات متناقضة وولاءات متباينة

انحلت هذه الولاءات إلى عناصر متناهية في الصغر، حتى بات من الصعب جمعها وتوصيفها ولكنها ترتد إلى بنى مغرقة في الضيق لدرجة أن ضوابطها والعناصر التي تحكمها ترتبط بشؤون بسيطة ويوميّة، وضرورات العيش في شارع معيّن ضمن شبكة قد لا تتجاوز حدود دائرة سكنيّة.

الاعتبارات في هذا المقام تتقلص ولكنّها تشكّل بنية ولاءات وخيارات لا يمكن الاستهانة بها، وخصوصاً أنّها تشمل السواد الأعظم من اللبنانيّين. القول بوجود شعب لبناني بسمات عامة مشتركة مقولة كاريكاتوريّة أمام واقع اللبنانيين الذين تحولوا إلى شعوب متناحرة بثقافات مختلفة ومرجعيّات متناقضة وولاءات متباينة.

وعلى عكس الفكرة التي تقول إنّ المصائب الجماعيّة توحد بين الناس، تثبت المعاينة اليوميّة لأحوال اللبنانيّين أنهم يسلكون طريق النجاة الفرديّة مهما كان الثمن وأنّ أواصر اللحمة والاجتماع والتعاطف التي يمكن أن تطلق مشروع احتجاج عام قد تقلّصت وذابت، ويشهد على ذلك الانحدار العريض في الأخلاق وفي التعامل، وذلك التوحش الدائم والذي لا يستعمل في الظروف القصوى، بل بات سمة تصف الحياة اليوميّة وإيقاعها.

ثانيها ما تشير إليه الإحصاءات حول مغادرة 400 ألف لبناني للبلد في أقل من ثلاث سنوات، وهؤلاء كانوا يشكلون العصب الذي أطلق ثورة تشرين عام 2019.

فرارهم الجماعي هو نتيجة لهزيمة تلك الثورة وما نتج عنها من تحوّل الشأن العام بأسره إلى صدى يكرر معانيها وينشر خطاب المنتصرين على أنه الصوت الرسمي الناطق باسم البلاد.

مع هذا الرقم المرعب لأعداد الفارين من جحيمها تحولت البلاد إلى مكان مأهول بمنتظرين يائسين يحسدون من نجحوا في الخروج منه، ويحاولون اللّحاق بهم ولو عبر قوارب الموت.

البلد الذي يغامر الناس بحياتهم للفرار منه ليس بلد ثورات بل مقبرة لها.

ثالثها خلل افتراض انطلاق ثورات لأسباب معيشيّة أو اجتماعيّة من دون مشروع سياسي، وذلك لأن الأزمات لم تقع على الجميع بالدرجة نفسها، بل خلقت مريديها وجماعتها والمستفيدين منها، والذين كانوا قبل فترة محصورين في الكبار، ولكنهم باتوا الآن موزعين على شبكات متعددة تطول مدبري الخدمات من أصحاب الموتيرات، وصهاريج المياه، وتجّار المواد الغذائيّة والأدوية وغيرهم.

تتوسع دائرة المنتمين إلى هذه الفئات مع اشتداد وتيرة الأزمات ويزداد تماسكهم وصلابتهم وتصعب مواجهتهم، إذ يقول واقع العيش اليومي اللبناني إنّ الثورة ضد صاحب موتور مكلفة وصعبة أكثر من مواجهة أي سلطة، لأن النجاة منها غير ممكنة، وكلفتها حاسمة في تأثيرها على الحياة التي ستتعطل كل مقوماتها دفعة واحدة وبشكل كامل.

وكذلك تجدر الإشارة إلى أن ثورة تشرين كانت قد انطلقت من معايير شموليّة لم تسمح بإنتاج خطاب سياسي، بل بدت كأنها تفترض أنّ الراديكاليّة التي واجهت بها كلّ السياسيّين إنما تصنع مشروعاً سياسيّاَ جديداً ونقيّاً، ولكن الأمر كان في الحقيقة محاولة لموازاة تطرّف التسلّط بتطرفٍ موازٍ في الشدّة. وكانت نتيجة ذلك عدم القدرة على إنتاج خطاب سياسيّ واضح المعالم.

جاء فوز بعض المرشحين في الانتخابات من حملة لواء النطق باسمها ليرسّخ واقع هزيمتها ويعكسه بشكل مر، لم يلبث أن أنتج مشهداً يمكن تحديده في أنه صورة للسلطة حين تكون فاقدة للقوّة، بل بدا كأن وجودهم بهذا الشكل بعض إفرازاتها، لأن عجزهم والخلافات الحادّة التي تشوب علاقاتهم جعلتهم جزءًا من مشهد اليأس العام.

لا يثور اللبنانيون لأنه لم يعد لديهم ما يدافعون عنه، أو لأنّ ما يجب الدفاع عنه ليس واحداً عند الجميع

أخيراً لا بد من التأكيد على أن الثورات مقرونة بالأمل مهما كان ضئيلاً. الاستعصاء العميق الغور في الأحوال اللبنانيّة لا يترك أي فسحة للأمل، فحتى لو افترضنا أن ثورةً ما قد انفجرت ونجحت في الانتصار، فإلى أين سيعود المنتصرون؟ وكيف يستطيعون تصريف انتصارهم؟

الشلل العام الذي يصيب البلاد أنتج حالة جعلت نتائج السكوت على الأوضاع موازية لنتائج الثورات بل ربما تكون الأفضلية للصمت.

لا يثور اللبنانيون لأنه لم يعد لديهم ما يدافعون عنه، أو لأنّ ما يجب الدفاع عنه ليس واحداً عند الجميع، ويرجّح أنّه تقلّص إلى حدود الشأن الشخصيّ المباشر الذي لا يعني أحداً سوى صاحبه.