ثقافة الحروب

2020.12.22 | 23:07 دمشق

3333.jpg
+A
حجم الخط
-A

 نودع بعد أيام سنة كانت مليئة بالأحداث السلبية والوقائع الكارثية التي ألمت بالعالم أجمع، متمنين أن تستقبلنا سنة جديدة خالية من البؤس والمرض والألم، أو لتمنحنا بعضاً من أمل الانفراج على أقل تقدير.

من الأزمة الصحية التي ما زالت تخيم بظلالها على البشر في المستويات كلها، إلى الركود الاقتصادي الحاصل وصولاً إلى حرائق الغابات التي اندلعت في أكثر من دولة وتسببت بخسائر مادية وبشرية وبيئية كبيرة، والقائمة تطول.

من هذا المنطلق تذكر دراسات طبية أن مشاهدة نشرات الأخبار تتسبب بشكل حقيقي بأزمات قلبية لدى البعض وبمشكلات نفسية لدى البعض الآخر، لذا ينصح الأطباء بالامتناع عن مشاهدتها على قبل النوم لأنها قد تتسبب بالكوابيس وبنوبات الهلع.

لقد أصبح العالم بأخباره مجلبة للبؤس بأحداثه المريعة والمرعبة، ولم تعد نشرات الأخبار تقدم خبراً سياسياً عادياً أو معلومات عن العلاقات الدبلوماسية بين الدول أو زيارات الحكام لتوطيد العلاقات، فأحداث الحروب والانفجارات والمفخخات سيطرت على الشاشات بشكل كبير وبدأت تتصدر نشرات الأخبار وصارت الأحداث الأكثر تفاعلاً على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن الامتناع عن مشاهدة الأخبار وحده قد لايفي بالغرض من أجل استعادة حياتنا الطبيعية، واعتبار أن العالم يعيش بسلام وأن ذاكرتنا المكتظة بمشاهد عن الموت والحروب والأسى والتشرد طارئة وغير دائمة.

لم تعد الحروب حدثاً استثنائياً لقد باتت حدثاً يومياً متجدداً، بينما بات السلم حالة عرضية واستثنائية، ولا يقتصر ذلك الوضع على دول العالم العربي فحسب.
 

لقد ازدادت حالة العنف باضطراد في دول العالم أجمع، سواء كان موجهاً من الحكومة بمؤسساتها نحو الشعب أو من الشعوب تجاه بعضها البعض أو بعضها الآخر.

إن العنف لا يمكن أن يولد سلماً بل إنه يولد عنفاً متزايداً ومضاعفاً، فتصبح الحلقات الاجتماعية الأكثر عنفاً وغضباً قادرة على توجيه حنقها وتفريغ غضبها بمن هو أكثر ضعفاً.

فالعنف الأسري أو الاجتماعي نتيجة طبيعية للعنف العام في العالم الذي أصبح مسيطراً على مجالات الحياة أغلبها، وبدأ يتسلل إلى أدق تفاصيلنا اليومية من سياسة ومجتمع أو مشاهدة دراما أو تسلية وألعاب.

لقد أصبحت ثقافة الحرب أمراً سائداً وعادياً على حساب الاطمئنان والأمان الذي كان ينشده الإنسان منذ بداية تكوينه، فقد ذكرت الدراسات في عام 2007 أنه على مدار القرنين الماضيين، فقدَ أكثر من 40 مليون شخص حياته في معارك في جميع أنحاء العالم، هذا إذا لم نأخذ في الحسبان ما حدث منذ عام 2011 من اضطرابات وأحداث عنف تسببت بها الأنظمة والجماعات الإرهابية واشتدت في خلال العقد الماضي، وإذا لم نذكر أعداد من لم تطلهم الدراسات أو سقطوا سهواً، أو المفقودين والمصابين بإعاقات جراء أحداث عنف، أو المضطربين نفسياً بسبب ما عاشوه من أهوال.

ربما لم يتوقف العالم عن اشتعاله منذ تكون الكوكب، لكن نفاقم حالة الحرب على حساب السلم وما ينتج عن ذلك من دائرة عنفية، قد ينذر بخطر كبير قد لا يقل بخطره عن الخطر الناتج عن الأوبئة الصحية أو الكوارث البيئية.

فالعنف المتسلل إلى عقول النشء الجديد متنكراً بهيئة ألعاب الكمبيوتر الحربية على سبيل المثال لا الحصر، يعد وسيلة لبرمجة عقولهم بشكل خفي على سهولة استخدام العنف ليحل محل أساليب التعامل الأخرى، ليصبح حدثاً يومياً عادياً لا يسبب التوقف عنده ومراجعته، ولا يشكل مشكلة تستحق التفكير بالتخلص منها، وعلى غرار ذلك يمكن قياس انتشار دمى الأطفال المباعة على شكل أسلحة ومسدسات أو كلاشينكوفات، ولا يقل عن ذلك أيضاً انتشار دراما الأكشن والعنف أو "التشبيح" _إذا جاز التعبير_ الذي يخلق في أذهان الجموع صورأ نمطية لأبطال يمتلكون من القوة والقدرة بقدر ما يبهروننا بقدرتهم على القتال واستخدام العنف والبطش، ولسنا بصدد ذكر الأمثلة الكثيرة على مثل هذه الأعمال الدرامية أو الفنية.

إن ثقافة الحروب لا تخلّف أشخاصاً معتلين جسدياً فحسب، بل إنها قد تصنع منا شخصيات معتلة نفسيّاً وغير متسقة مع داخلها أو متصالحة مع نفسها، إذ تجعل منا على اختلاف شخصياتنا وتبدلها أقوياء بقلوب هشّة، وأشخاص ضعفاء وشخصيات مهزومة، وأشخاص مزدوجي الأوجه يقولون مالا يفعلون إنسانيا وثورياً.

أما أكثرنا بؤساً وهم الأغلبية الساحقة يصبحون أشخاصا مكتئبين لا يستطيعون مجاراة العالم ويرفضون ظلمه، في مقابل ظهور شخصيات متسلّقة غير عابئة بالمشكلات العامة أو متاجرة بالقضايا، فيما يبقى أشخاص قليلون جداً وغير مؤثرين ضمن جعجعة الأسلحة وأصوات القنابل وضجيج القتل المستمر، يسرقون الفرح من فوّهات البواريد ويموتون في أول رصاص طائش.

النتيجة الأقل ملاحظة التي لا يأخذها العالم في الحسبان، أننا جراء اعتلالنا النفسي سنكون غير قادرين على تربية وإنشاء جيل سويّ نفسياً ونصنع في أحسن الأحوال طبقة من الجيل الهابط الكافر بالقضايا، أو نتحول إلى شخصيات تمارس العنف ضد أبنائها وتورثه لهم.

ما يحدث على الصعيد العالمي ليس مفاجأة ولا يمكن أن نتذرع بأنه أمر خارج عن السيطرة، ذلك أن الدول والمنظمات تنفق على التسليح أضعاف ما ينفق على التعليم، ويصوغون سياساتهم وعلاقاتهم وفقاً لصفقات شراء السلاح، ولهذا من الطبيعي أن تكون النتيجة انحدار المستوى العلمي وتفاقم النزعة إلى العنف .

لذلك فإنّ أفضل ما قد يفعله الإنسان منا في مواجهة العنف المتزايد ولحماية نفسه من الانزلاق في هذه المذبحة، في مسيرة حياته القصيرة، أن يحاول التعرف إلى الإنسان الحقيقي الموجود في داخله ومحاولة إحيائه.

كلمات مفتاحية