تلفزيون سوريا في ذكرى انطلاقته الثالثة

2021.03.04 | 00:37 دمشق

dsc00705.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعلّه من العسير على المرء التجرّدُ المطلق عن مشاعره واعتلالاته الجوانية، والاحتكام الكامل إلى ما يقتضيه المنطق الحيادي، وبخاصة حيال مسألة يتوجب الحديث عنها انحيازاً مهنياً أكثر منه انحيازاً شخصياً، إلّا أنني أعترف – بدايةً – بعدم ملازمة هذه المقالة لما هو مفترض بها من حيادية، وانشدادها إلى جانب شخصي ليس بوسعي التبرؤ منه، لعل هذا ما أشعر به، وتبوح به نفسي، وأنا أتحدث عن الذكرى الثالثة لانطلاقة تلفزيون سوريا الذي لم تكن السبل المهنية وحدها هي التي جعلتني أواكب انطلاقته، بل لعلّ أمراً آخر أكثر التصاقاً بالنفس. يعود ذلك إلى شهر كانون ثاني من العام 2018، حين اتصلت بي الكاتبة والإعلامية المتميّزة الأستاذة سعاد قطناني، لتتحدث عن عمل كانت قد بدأت بالشروع به، وهو برنامج تلفزيوني، متعدد الحلقات يسلّط الضوء على قضايا المعتقلين السياسيين في السجون الأسدية، مؤكّدة أنها تقوم بالإعداد لهذا البرنامج على نطاق واسع، وتسألني إن كنتُ أوافق على تسجيل حلقة تقارب من خلالها تجربتي طيلة خمسة عشر عاماً في السجن، فوافقت بالطبع، واتفقنا على أن يبقى التواصل قائماً بيننا إلى حين موعد تسجيل وتصوير الحلقة. كان يُخيّل لي آنذاك، أن لقائي المنتَظر لن يكون سوى كغيره من اللقاءات الإعلامية العديدة التي تنتهي بحصول الجهة الإعلامية على ما تريد، ثم ينتهي أثر المادة الإعلامية بعد استثمارها في سوق الإعلام، وربما لهذا السبب، لم يخطر ببالي السؤال حينذاك عن أي الجهات الإعلامية التي ستعرض اللقاء، سوى علمي الوحيد بأن اللقاء سوف يُسجّل لصالح شركة (ميتافورة).

لم يكن برنامج (يا حرية) الذي واكب ولادة تلفزيون سوريا مجرّد حلقات تحكي سير المعتقلات والمعتقلين السوريين، وتروي عذاباتهم ومعاناتهم في السجون السورية، بل كان منبراً جديداً لإعادة النظر في قضية الاعتقال من جميع جوانبها

وفي بداية شهر شباط من العام ذاته، التقينا، الأستاذة سعاد قطناني، والمخرج المتميّز الأستاذ هشام زعوقي، وأنا، في مدينة غازي عينتاب التركية، جلسنا في أحد البيوت، بصحبة عدد من المصورين، وتحدثنا لمدة تقترب من الساعتين، لننطلق بعدها باتجاه الأسواق القديمة في عينتاب، حيث مقاهيها وأسواقها الضيقة التي تتماثل في المخيلة بـ (سوق المدينة ، والسويقة وحي الجديدة وسواها من الأسواق الحلبية) وكذلك قلعتها التي تتماهى في كثير من سماتها بقلعة حلب الشهيرة،  وخلال الفترة الممتدة من الثامنة صباحاً، وحتى التاسعة مساء، كان الجميع يعمل بوتيرة مرتفعة، سعياً لإنجاز أكبر عدد من المشاهد، وفي نهاية تصوير كل مشهد، كانت علائم الرضى على وجوه المخرج والأستاذة سعاد تطرد الكثير من ملامح التعب والجهد المتراكم نتيجة العمل لساعات طويلة، وقبل أن ننهي ذاك اللقاء بدقائق، لم أعد أذكر ما الذي جعلني أسأل الأستاذة سعاد: على أية قناة سوف يتم نشر هذه المادة؟ حينها أجابت سعاد بمزيد من الغبطة: على تلفزيون سوريا الذي سينطلق في الأسبوع الأول من آذار المقبل.

لم يكن برنامج (يا حرية) الذي واكب ولادة تلفزيون سوريا مجرّد حلقات تحكي سير المعتقلات والمعتقلين السوريين، وتروي عذاباتهم ومعاناتهم في السجون السورية، بل كان منبراً جديداً لإعادة النظر في قضية الاعتقال من جميع جوانبها، وكذلك لم تعد تلك القضية مجرّد شأن شخصي لا يبارح أصحابه، بل عادت لتتموضع في سياقها الصحيح، كجزء لا يمكن فصله عن القضية الوطنية العامة التي تتجاوز التخوم الشخصية لأصحابها، وتغدو شأناً سورياً عاماً، فضلاً عن كون برنامج (يا حرية) هو الأول من نوعه من حيث ترسيخ جميع حلقاته لمسألة جوهرية واحدة هي قضية المعتقلين، أضف إلى ذلك الإسهام الكبير الذي قدّمه البرنامج في فضح حقيقة التوحّش الأسدي داخل السجون.

جاءت ولادة تلفزيون سوريا، لتكون قناة سوريةً بامتياز، ليس بمادتها الإخبارية السياسية المباشرة فحسب، بل بمجمل برامجها التي تحاول ملامسة أحوال السوريين من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية

لعلّ الكثير من القنوات الإعلامية العربية وغير العربية، قد واكبت أحداث الثورة السورية، ومنها من كان حضور القضية السورية فيها قوياً في فترة من الفترات، إلّا أن ذاك الحضور أو غيابه، كان مرهوناً على الدوام بالسياسات الإعلامية لتلك القنوات، وبالتالي هو مرهون بطريقة مباشرة بسياسات الدول الراعية والمموّلة، مما يجعل ثورة السوريين أحوج ما تكون إلى منبر إعلامي يكون حضورها فيه محورياً، باعتبارها قضية شعب غير قابلة للاستثمار السياسي أو الإعلامي، ولا تخضع – إعلامياً – إلى تبدّل صراع المصالح أو الاصطفافات السياسية للمحاور الإقليمية أو الدولية، ومن هذه الحاجة، ربما جاءت ولادة تلفزيون سوريا، لتكون قناة سوريةً بامتياز، ليس بمادتها الإخبارية السياسية المباشرة فحسب، بل بمجمل برامجها التي تحاول ملامسة أحوال السوريين من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وذلك من خلال برامجها المنوعة التي تسعى إلى مقاربة حال السوريين في الداخل السوري كما في مخيمات النزوح، وكذلك في بلدان اللجوء والمنافي.

بإمكاني الزعم، أن إدارة تلفزيون سوريا كانت إبان انطلاقتها أمام خيارين اثنين: إما أن تلجأ إلى استعارة خبرات تقنية إعلامية، ووجوه لها حضور معهود على الشاشات العربية، وإما الاعتماد على الخبرات الشابة السورية ذات الكفاءات العالية ولكن تخذلها الخبرة، فانحازت إلى الخيار الثاني، وكان انحيازها أشبه بمغامرة، إلّا أن هذه المغامرة تحوّلت إلى قصة نجاح حقيقية، أثبتت من خلال التجارب والمعطيات أن الكفاءات الشابة تتحوّل إلى طاقات إبداعية خلّاقة حين تتسلّح بالإخلاص والمعرفة وحبّ العطاء.

ما يقدمه المشهد العالمي من تطور هائل ومتسارع على المستوى الإعلامي، لا يبيح لأحد الادّعاء بأنه بلغ جلّ ما يرمي إليه، بل يبقى السعي للوصول إلى الأفضل هو هدف الجميع، ولا شك في أن تلفزيون سوريا، ممثّلاً بجميع العاملات والعاملين فيه، لا ينقصه القدرة على الاجتهاد المستمر، ليكون عطاؤه المهني موازياً لعطاء ثورة السوريين.

كلمات مفتاحية