تقاطع الحكايات

2021.06.09 | 05:59 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

هنالك روايات تستطيع سجنك فيها بحيث لا يمكن أن تخرج منها إلا وقد أنهيتها، وإذا اضطر الواحد منا إلى تركها بسبب الانشغالات اليومية والحياتية فقد يستمر في التفكير فيها حتى يعود إليها مرة أخرى فيتابع أحداث الأبطال والشخصيات الذين أحبهم.

نعم، هنالك شخصيات روائية قد تجبرك على حبها فيما إذا قرأتها، وأستطيع أن أجزم أن الكاتب نفسه قد لا يفلت من فخ حب شخصياته أو التعلق بهم والحزن على فراقهم بعد أن يفرغ من كتابة حكاياتهم.

لا يستطيع الكاتب أو الشاعر حين الفراغ من كتابة عمل الانتقال إلى إنجاز عمل آخر ببساطة وكأن شيئاً لم يكن، ذلك أنه لا بد أن يتورط عاطفياً مع شخصياته وقد يعيش ألم الانفصال عنهم أيضاً، وفي أحيان كثيرة أيضاً قد يقع القارئ في ذلك الفخ فيصاب بتخمة جمالية وعاطفية بعد انتهائه من قراءة عمل معين يثير لديه شجوناً وذكريات كثيرة.

يحتاج القارئ ربما بعدها إلى فترة نقاهة كي يتمكن من العودة إلى الواقع بعد أن أوغلت بعض الأحداث في وجدانه عميقاً، أو لأنه مازال عالقاً في الحكاية التي كان يتابعها مؤخراً.

يحدث ذلك لدى مشاهدة عمل سينمائي أو تلفزيوني أيضاً فنتمنى ألا ينتهي، وقد حدث ذلك معي في أثناء وبعد قراءتي لرواية "ألف شمس ساطعة"، التي لا يمكن إلا أن تستوقفك طويلاً أمام أبطالها، فتكاد تشعر أنهم حقيقيون إلى درجة تظن فيها أنك قد تستطيع لمسهم أو أنك لا بد وقد صادفتهم في أحد منحنيات حياتك السابقة ولم تنتبه.

الرواية الغنية عن التعريف هي من أحد أعمال الكاتب الأميركي من أصل أفغاني خالد الحسيني الذي عمل طبيباً مدة عشر سنوات، وقد صدرت الرواية لأول مرة في عام 2007، وتعد الرواية الثانية بعد روايته عدّاء الطائرة الورقية.

العنوان المعروف مأخوذ من قصيدة للشاعر شمس التبريزي وقد كان يقصد فيه كابل عاصمة أفغانستان.

روى لنا الكاتب في فصول الرواية حكايات من الحياة الاجتماعية في أفغانستان إبّان الحرب وسيطرة تنظيم طالبان والقاعدة وبعد انتهاء الحرب وإعادة الإعمار، وسرد لنا من خلال الأحداث وعلى لسان الشخصيات تفاصيل عن أزمة المجتمع وهويته وانقسامه على نفسه بين قبائل وعشائر، واستفاض في الحديث عن أزمة المرأة وانعدام حيلتها في تحديد مصيرها وتماهي شخصيتها مع عادات وتقاليد البلاد المحافظة، وقوة تحملها وصبرها وتضحيتها في كثير من المواقف إضافة إلى تصوير الأحداث السياسية والصراعات في البلاد.

تتجلى قدرة الكاتب على تصوير الأحداث وتحويل الواقع المرير الذي عانت منه أفغانستان إلى دراما واقعية

قُسّمت الرواية إلى ثلاثة أجزاء، تحدث الجزء الأول عن مريم، وتحدث الثاني والرابع عن ليلى، أما الجزء الثالث فمحوره يتغير ما بين ليلى ومريم مع كل فصل.

تكمن أهمية الرواية في توثيقها لفترة زمنية حساسة في تاريخ البلاد، وتتجلى قدرة الكاتب على تصوير الأحداث وتحويل الواقع المرير الذي عانت منه أفغانستان إلى دراما واقعية تأخذك في كل فصول الرواية ومع كل شخصياتها، لتظن نفسك شخصاً عاش هذه الأحداث وعانى ويلات الحرب وسيطرة الفصائل الإسلامية وتصارعها بسبب تلقيها التمويل من جهات مختلفة بشرط ضمان ولائها.

لا بد أن كثيراً مما سبق يعرفه القراء ممكن يفضلون هذا النوع من الكتابة، لكن لمثل هذه الأعمال أهمية مختلفة قد تأخذ لها مكاناً خاصاً لدى القراء ممن عاشوا فترات الحرب، بسبب تشابه الأحداث والسيناريوهات في كثير من التفاصيل.

تبدو سيناريوهات الحروب هي ذاتها في مختلف البلدان من غير أن يتكلف الجناة والغزاة عناء تغيير الأحداث، ربما كان ذلك السبب الذي يجعلنا نستشعر الشبة بيننا وبين أبطال الحكايات التي تتحدث عن الحرب أياً كانت جنسية كاتبها وجغرافية أحداثها، وعلى الرغم من اختلاف المجتمعات وبعض تفاصيل الحكايات الشخصية، إذ أن العنصر المسيطر على الحكايات يبدو واحداً.

فحالة الألم يبدو أنها تستحوذ على المساحة الأكبر فيما تسيطر بعض التفاصيل الأخرى على إيقاع الحرب والحكايات معاً، مثل ظهور طبقة أثرياء الحروب والمتنفذين والمستغلين، أو وضوح حالة الشقاق الاجتماعي والسياسي الحاصل في المجتمعات التي تتعرض للغزو، أو حتى في وجود معسكرات سياسية وعسكرية تحاول تجاذب القطعة الكبيرة من الكعكة التي يسعون لاقتسامها.

كقراء وأبناء بلاد ترزح تحت أتون الحروب، فإن ما يجعلنا نتعلق بروايات كثيرة هو تشابه أحداثها مع محطات حياتنا إذ يبدو أن ألم الناس في أفغانستان لا يختلف عن الألم السوري، لأن كليهما يحمل في جعبته عذاب شرنقة طال أمد تمزقها.

وعلى كثرة الإنتاج الأدبي في الفترة التي تلت الثورة السورية وأهميته، إلا أن كثيراً من حكايات السوريين ما زالت حبيسة الأدراج ولم تخرج إلى النور حتى الآن ربما لأن كثيراً منا لم يدرك أهمية حكاياته بعد، وأنه من الضروري أن يمتلك الشجاعة لإخراجها ومواجهتها، لأن سردياتنا الفردية تكفي لتشكل ملحمتنا الخاصة بدلاً من أن نبقى أسرى لتلك الحكايات التي لا تفتأ تعبث في رؤوسنا من غير هوادة.

أكثر ما يمكن أن نفتقده ونبحث عنه أو نسعى للحفاظ عليه هو الحقيقة، تلك التي يحاول العالم أجمع طمسها فيما نحاول أن نثبتها في حكاياتنا المختلفة

إن قدر الشعوب المكلومة أن يجمع حكاياتها المتفرقة الألم، ألم المخاض العسير أحياناً أو السخرية التي تخرج من قلب المأساة في أحيان كثيرة، أو الشعور بانعدام جدوى في أحيان أخرى، لكن أكثر ما يمكن أن نفتقده ونبحث عنه أو نسعى للحفاظ عليه هو الحقيقة، تلك التي يحاول العالم أجمع طمسها فيما نحاول أن نثبتها في حكاياتنا المختلفة.

ولا تقتصر الحقيقة هنا ما يخص الثورة فقط، بل المجتمع والدين وكل ما يمكن أن يجعلنا نكتشف أنفسنا أكثر ويجعلنا نجد النقطة المناسبة للبدء منها.

وعلى الرغم من هذا وذاك إلا أن النجاحات والتعاطف الذي يمكن للأعمال الأدبية والفنية المشغولة عن الحرب أن تحصده، يبقى في إطار الكلام المتداول الذي لا يسمن ولا يغني من جوع أو برد، بينما يبقى ضحايا الحرب يعيشون الدوامة نفسها ولا يحصدون سوى القهر والصور الفوتوغرافية في المجلات أو الأسماء في الروايات على أكثر تقدير.

كلمات مفتاحية