تفضيل بعض الموظفين في الرّاتب بسبب الحاجة إلى مؤهلاته الخاصّة

2021.11.21 | 05:52 دمشق

507623501633777149.jpg
+A
حجم الخط
-A

من القضايا المهمة التي تعترضُ الجماعات والجمعيّات والمؤسّسات العامّة التي تتصرّف بالمال العام في التّوظيف حاجتها إلى التّعاقد مع صاحب خبرةٍ متميّزة للحاجة إليه في العمل، ولما يملكه من قدرات لا يملكها أمثاله عادة.

  • المصلحة الحقيقيّة تقييدٌ للمسؤول لا تخيير له

وهنا لا نتحدّث عن رغباتٍ ذاتيّة للمسؤولين بحجّة المصلحة العامّة، أو التستّر برداء المصلحة لإنفاذ الأهواء الشخصيّة والمحسوبيّات الضيّقة، بل نتحدّث عن حاجة العمل إلى شخصيّة ذات خبرةٍ أو كفاءةٍ معيّنة، ولا يمكن استقدامها إلى العمل على وفق سلّم الرّواتب العام المعمول به، وذلك لأنّ استقدامها يعني أنّها ستترك عملًا تجني منه موردًا كبيرًا، مع غلبة الظنّ أنّ قدومها سيحقّق نقلةً نوعيّة للمؤسسة أو العمل، أو أنّه يمتلك من المؤهلات والمميزات والخبرات ما لا يمتلكه أمثاله.

هذه الحالة تنظمها القاعدة الفقهيّة التي اتفق عليها الفقهاء وهي "تصرّف الإمام على الرعيّة منوط بالمصلحة".

وهذا يقتضي أنّ المسؤول يتصرّف في المال العام بما تقتضيه المصلحة الخاصّة بالعمل، وهنا نتحدّث عن المصلحة الحقيقيّة التي يحدّدها المسؤول بالتشاور مع أهل التخصص والخبرة وليس المصلحة الموهومة، فالمصلحة هنا تقييدٌ للمسؤول وليست تخييرًا له.

يقول أبو بكر البلاطنسي في كتابه "تحرير المقال فيما ويحلّ ويحرم من بيت المال": "واعتقد الجهّال أنّ للسلطان أن يعطي من بيت المال ما شاء لمن شاء، ويقف ما شاء، على من يشاء، ويرزق ما يشاء لمن يشاء، من غير تمييز بين مستحقّ وغيره، ولا نظر في مصلحة، بل بحسب الهوى والتشهّي، وهو خطأ صريح، وجهل قبيح، فإنّ أموال بيت المال لا تباح بالإباحة".

وما نجده في عبارات عموم الفقهاء هو التأكيد أنّ المسؤول عليه أن يطيل النظر والفكر في معرفة الأصلح فيأتيه.

قال البلاطنسي في موضع آخر من كتابه: "لا يتحتّم عليه قبل الفكر والنظر فعل خصلة من الخصال، وإنما يجب عليه أن يبذل غاية الجهد في اختيار ما هو أصلح للمسلمين، فإذا استوعب الفكر والنّظر في وجوه المصالح، فوجد مصلحةً هي أرجح للمسلمين، تحتّم عليه تحصيلها، وأثم بتفويتها".

فالمسؤول في الجماعة أو الجمعيّة أو المؤسّسة العامّة إن توصّل بعد اجتهاد يقوم على إجراء دراسات من أهل التخصّص، ومشاورة أهل الخبرة بأنّ الأصلح للعمل يكمن في استقدام شخصٍ معيّن براتبٍ أكبر ممّا يعطى لعموم الموظفين في الجماعة أو المؤسّسة لما له من مؤهلات خاصة تحتاج إليها الجماعة أو المؤسّسة، فعليه أن يفعل ذلك ما دام هذا هو الأصلح.

  • نموذجٌ من العهد النبويّ

وقد ورد في سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ما يفيد هذا المعنى، ففي الصّحيحين وغيرهما يَحكِي سَلمةُ بنُ الأَكْوعِ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّه: "أَغارَ عَبدُ الرَّحمنِ بْنُ عُيينةَ"، أي: هَجَمَ، "على إِبِلِ رَسولِ اللهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَتلَ راعِيَها وَخَرجَ يَطرُدُها"، أي: يَسوقُ الإبِلَ لِيأخُذَها، "هو وأُناسٌ معه في خَيلٍ"، أي: ومعه فرسانٌ بِخيولِهم، "فَجعَلتُ وَجْهي قِبَلَ المدينة ثُمَّ نَاديتُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: يا صَباحاهُ"، وهي كَلِمةٌ يَقولها المُستَغيثُ للتَّحذيرِ من شَرٍّ أو عَدوٍّ، "ثُمَّ اتَّبَعْتُ القَومَ فَجعلتُ أَرْمي وأعْقِرَهم"، أي: أَرْمي بِالسِّهامِ وأقْتُل مَركوبَهم وخُيولَهم وأجْعَلهم راجِلينَ بِعَقْر دَوابِّهم، "فإذا رَجعَ إِليَّ فارِسٌ جَلستُ في أصْلِ شَجَرةٍ"، أي: مُتوارِيًا في جِذعِ شَجَرةٍ، "حتى ما خَلَقَ اللهُ شيئًا من ظَهْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلا جَعلْتُه وراءَ ظَهْرِي"، والظَّهرُ: هي الإبِلُ التي أخَذوها، ويُريدُ أن جَميعَ ما أخَذوه من إبِلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخَذْتُه منهم وتَركْتُه خَلْفي، وجَعَل يَتتَبَّعهم، "وحتى أَلْقَوا أكْثَرَ من ثَلاثينَ رُمحًا وثَلاثينَ بُردةً"، وهي كِساءٌ صَغيرٌ مُربَّعٌ، أو كِساءٌ أسودُ صَغيرٌ، "يَستَخِفُّونَ منها"، أي: يَطلبونَ الخِفَّةَ منها؛ ليكونوا أسْرعَ في الفِرارِ والهَربِ منه، "ثم أتاهُمْ عُيينةُ مَدَدًا"؛ وهو عُيينةُ بْنُ حِصن والد عَبدِ الرَّحمن الذي أغارَ على الإِبلِ، والمَددُ: هو مَن يَنصُرُهم ويُعينُهم، "فَقَالَ" أي: عُيينةُ: "لِيقُم إليه نَفرٌ منكم، فقام إِليَّ أرْبَعةٌ منهم فصَعِدوا الجَبلَ، فلمَّا أسْمَعْتُهم"، أي: قَدرْتُ على إِسْماعِهم بِقُربِهم منِّي، "قلتُ: أتَعْرِفوني؟ قالوا: ومَن أنْتَ؟ قلتُ: أنا ابْنُ الأكْوَع، والذي كَرَّم وَجْهَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لا يَطلُبُني رَجلٌ مِنكُم"، أي: يُطارِدُني ويُريدُ قَتْلي، "فَيُدرِكُني، ولا أَطْلُبُه فَيَفوتُني"، وهذا تَهديدٌ لهم بِأنَّهم لن يَفوزوا به، بل هو مَن سَيقتُلُهم؛ قال: "فما بَرِحتُ حتى نَظرتُ إلى فَوارسِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"؛ والفوارسُ: جمعُ فارِسٍ وهم المقاتِلونَ على الخَيلِ؛ إلى أن يقول: ثُمَّ جِئتُ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو على الماءِ الذي جَلَّيْتُهم عنه"، أي: طَردْتُهم عنه، "ذو قَرَدٍ"؛ وهو مَاءٌ بين المدينةِ وخَيبرَ على مَسافةِ يَومٍ من المدينةِ، أي: يَقَعُ على بُعدِ ثَلاثينَ كيلومترًا تقريبًا منها، "فإذا نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في خَمسِ مِئة"، أي: وَجدَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَاكبًا في خَمسِ مِئة رَجُلٍ، كانوا يَتجَهَّزونَ للُّحوقِ بهم، "فأعْطاني سَهمَ الفارِسِ والرَّاجِلِ جميعًا"؛ والفارسُ له سَهمٌ لِنفْسِه وسَهمان لِفرَسِه، والرَّاجِلُ وهو الذي قاتَل عَلى رِجلَيهِ له سَهمٌ وَاحدٌ.

وفي هذا دليلٌ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم أعطى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه من المال العام أكثر مما يعطى أمثاله عادةً، فالأصل أنّ الرّاجل أي غير الرّاكب ينالُ سهمًا بخلاف الفارس الذي يأخذ ثلاثة أسهم؛ سهمًا له وسهمين لفرسه، بينما أعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلّم سهم الفارس والرّاجل جميعًا على الرغم من أنّه كان راجلًا، وذلك لما يملكه من مميزات تفوق ميزات غيره من المقاتلين على أرجلهم، بل تفوق ميزات الفرسان على خيولهم.

إذن فللمسؤول أو لمجلس الإدارة في الجماعات والجمعيّات والمؤسّسات العامّة أن يتعاقدوا مع موظفين أو مستشارين أو مفكرين لهم قدرات خاصّة وغلب على الظنّ أنّهم سيحقّقون فوائد نوعيّةً للعمل؛ بعقود طويلة أو قصيرة بناءً على ما تقتضيه مصلحة العمل، وإعطاء هؤلاء زيادةً في الرّواتب عن السلّم العام المعمول به استثناءً لا يعدّ تضييعًا للمال العام، ولا يتنافى مع مبدأ العدل الذي يجب على المسؤول تحقيقه في المؤسّسة بين الموظفين.

وهنا يتبادر سؤال حول تفضيل البعض بالرواتب لا بسبب قدراتهم ومؤهلاتهم الاستثنائيّة ولا بسبب الحاجة إليهم بل بسبب مكانتهم المعنويّة وهو ما بات يعرفُ بالسبق الثوريّ والتضحية المبكرة؛ فهل هذا يعدّ معيارًا مقبولًا في التفاضل بالرّواتب المأخوذة من المال العام؟ هذا ما سنجيب عنه ــ بإذن الله تعالى ــ في المقال المقبل.