تغيير النظام أم تغيير المجتمع؟

2020.03.31 | 00:08 دمشق

bd_alnasr.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل الأولوية لحلّ المشكلات الهائلة في بلداننا هي لتغيير النظام؟ أم لتغيير المجتمع؟! وماذا ينفع إذا غيّرنا النظام السياسي ثم أقمنا في مكانه نظاماً مثلَه أو أسوأ منه؟ لكنْ هل نستطيع حقاً إحداث تغيير في المجتمع مع بقاء الأنظمة المستبدة كما هي عليه؟!

منذ هزيمة حزيران 1967، انتشر بين المثقفين والمفكرين العرب أن سبب الهزيمة، بل سبب المشكلات جميعها، يعود إلى المجتمعات العربية، وتحديداً إلى ثقافتها وأديانها و"عقليّتها" و"ذهنيّتها" وموروثها الاجتماعي. وهكذا؛ صارت القيادتان البعثية والناصرية بريئتين من كلّ مسؤولية عن الهزيمة وما مهَّد للهزيمة، وأصبح الناسُ الذين من أحلامهم تأمين الخبز والكسوة والتدفئة؛ هم المسؤولون، لأنهم "متخلّفون"، ولأنّ لديهم "عقلية" أو "ذهنية" لا تعجب أولئك المفكّرين.

استمرت هذه الظاهرة الثقافوية (أي ردُّ مشكلات الواقع إلى الثقافة) حتى اليوم، فظهرت خلال ثورات الربيع العربي أصواتٌ تعتبر الشعوب العربية غيرَ جديرة بالحرية والديمقراطية، لأنها شعوب "متخلّفة" و"متديّنة" و"ظلامية". كما ظهرت أصواتٌ تعفي الأنظمة الحاكمة من المسؤولية عمّا يجري من ويلات، وتعتبرُ أمرَ تغييرها أمراً ثانوياً غير مهمّ، أما المهمّ -في رأيهم- فهو تغيير المجتمع. والـمُفارقة هي أنهم لا يقصدون بـ "تغيير المجتمع" تغييره من الناحية الاقتصادية مثلاً، أي تخفيف الفوارق الطبقية ورفع مستوى المعيشة وحلّ أزمة البطالة. ولا تغييره من الناحية الحقوقية، مثل تفعيل القانون ومحاربة الفساد ووقف انتهاكات حقوق الإنسان. إنهم يتحدثون عن تغيير "عقل" أو "ذهنية" يعتبرونها سببَ تخلُّف المجتمع، فيطالبون الناس بنبذها ثم تبنّي "عقل" أو ذهنية" تكون حداثية أو متقدّمة. لكنهم لا يخبروننا كيف يمكنُ تغيير ثقافة مجتمع أو "عقليّته"؛ دون إحداث تغييرٍ جذري في المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية؟ وكيف يمكن إحداث هذا التغيير؛ دون تغيير النظام في دُوَل تتحكّمُ فيها السلطةُ بأدقّ المفاصل والتفاصيل؟ وهل يمكن تغيير الثقافة أو الفكر في ظلّ نظام شمولي يكمُّ الأفواه ويعتقل ويقتل بسببٍ وبلا سبب؟! ثمَّ هل يُسمَحُ بنشر قيَم التنوير والحداثة؛ في ظلّ نظامٍ اشتغلَ -ستّين عاماً- على نشر الجهل والفقر والفساد والطائفية والإرهاب؟!

السؤال الذي ينبغي أنْ يُطرَح قبل ذلك هو: ما هي طبيعة النظام السياسي الذي نتحدث عنه؟

وبكلامٍ آخر؛ المسألة تتعلّق بالعلاقة ما بين الثقافة والسياسة، أي هل ثقافة المجتمع تنجب نظامه السياسي؟ أم أنّ النظام السياسي هو الذي ينجب ثقافة المجتمع؟! هل الاستبداد ناجمٌ عن كون ثقافة المجتمع استبدادية؟ أم أنّ ثقافة المجتمع الاستبدادية هي الناجمة عن النظام المستبدّ؟! أعتقدُ أنّ السؤال الذي ينبغي أنْ يُطرَح قبل ذلك هو: ما هي طبيعة النظام السياسي الذي نتحدث عنه؟ فكلّما كان النظام أقرب إلى الديمقراطية من حيث حرية الرأي والتعبير وقبول النقد والتعدُّدية السياسية والفكرية والإعلامية؛ فإن آراء الناس وثقافة المجتمع والاتجاهات الفكرية السائدة سوف تؤثر في النظام السياسي، إما عن طريق الانتخابات البلدية والبرلمانية، أو عبرَ دور الصحافة والإعلام في نقل صوت الشارع، أو عن طريق العلاقة المباشرة بين المواطنين وممثلي الدولة الإداريين. أما حينما يكون النظام استبدادياً وشُمولياً، فيكون هو المتحكّم بالحياة السياسية ووسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية... ويستخدم أجهزة الدولة في نشر ثقافته؛ ثقافة السلطة التي يبرّر بها وجوده، ويضمن بها استمراريته، ويصنع بها شرعيّته... فعندها لا يصحّ القول إن ثقافة الشعب الاستبدادية هي التي أنجبت نظام الاستبداد، بل يصحّ إن نظام الاستبداد هو الذي أنتج ثقافة الاستبداد في المجتمع، لأنه هو الطرف الذي يملك القوة الفعلية لنشر ثقافته.

وكثيراً ما يحلُو لذلك التيار من المثقفين، ممَّن يردُّون المصائب كلّها إلى ثقافة المجتمع وعقله "المتخلّف" أو "الغيبي"، أنْ يُعيدوا هذه الثقافة أو "العقلية" إلى أصولٍ مفترَضةٍ لها في الماضي، فيعودون إلى التاريخ عودةً انتقائية، ليختاروا منه أحداثاً ونصوصاً وأقوالاً وقعتْ قبل قرون؛ ويعتبرونَ أنها هي المتحكّم بسُلوك البشر حتى اليوم، وكأنهم بشرٌ من دون إرادة ورغبات وأهواء ومصالح، ومن دون ظروف مادية واجتماعية ونفسيّة تكبّل حياتهم. وهكذا؛ يصبح الحجّاج الثقفي مسؤولاً عمّا يجري في سوريا اليومَ أكثر من الأسد، ويغدو صلاح الدين مسؤولاً عن حالِ مصر أكثرَ من السيسي.

لكنّ العودة الموضوعية إلى التاريخ تقولُ غير ذلك، فالتاريخ المتَّفَق عليه يخبرنا عن ملوكٍ وأمراء دعموا الأدباء والعلماء والفلاسفة، فازدهر العلم والفكر والأدب في عصرهم. وفي المقابل، هنالك من أهملُوا الإنفاق على العلم والثقافة، وحاربُوا العلماء والفلاسفة والمتكلّمين، فتراجعت المجتمعات وتخلَّفت. فالخليفة هارون الرشيد أنشأ "بيت الحكمة" ووضعَ فيه كلَّ ما جمعه من كتب ومخطوطات، وأتاحها للعامة. ثم جاء المأمون الذي أمر بترجمة كتب اليونان إلى العربية، وأكرم المترجمين والعلماء، فازدهرت العلوم في عصره ومن بعده. والخليفة الموحّدي أبو يعقوب يوسُف هو مَن أمرَ ابن رشد بترجمة كتب أرسطو وشرحها، ووفّر له ما يحتاج لإنجاز ذلك. وهكذا عبرَ التاريخ العربي، كان تغيير المجتمع وثقافته و"عقليته" يبدأ بقرارٍ سياسيّ من الأعلى، يُهيّـئ الظروف المناسبة لذلك.

عندما نهضتْ مصرُ نهضةً عظيمة في عهد محمد علي باشا، كانت الثقافة العامّة للمجتمع المصريّ هي الثقافة العربية الإسلامية، بما فيها من إسهاماتٍ غير عربيّة وغير مُسلمة، كثيرة ومهمّة. وعندما تخلّفت مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كانت الثقافة العامّة للمجتمع هي الثقافة العربية الإسلامية ذاتُها. إذاً؛ ما تغيّر هو ليس ثقافة المجتمع أو "عقله" أو موروثه أو دينه، بل طبيعة النظام الحاكم.