تعطيل "السياسة" في لبنان

2020.08.30 | 00:06 دمشق

-1-30-1200x630-c-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

فرض حزب الله شروطه في ما سمي "اتفاق الدوحة" (2008) الذي بات مرجعية شبه دستورية لإنتاج السلطة. وكان مبدأ "الديموقراطية التوافقية" هو الأساس بالاتفاق، الذي أراده الحزب قاعدة دائمة في تشكيل الحكومات كما في عمل مجلس النواب. وهذا يعني - حسب اجتهاد الحزب بتفسيره- منع ترجمة الانتخابات النيابية في أغلبية فائزة تحكم وأقلية خاسرة تعارض. فمهما كانت نتيجة صناديق الاقتراع، على السلطة أن تكون "توافقية".

قد يكون ذلك للوهلة الأولى إيجابياً بالنظر إلى الفسيفساء السياسية والطائفية والمناطقية التي يتسم بها لبنان. كذلك فكلمة "توافق" تستبطن لدى اللبنانيين دلالة على "الوفاق الوطني". لكن، وفي التجربة العملية، وإذا ما انتبهنا أن حزب الله هو الطرف المسلح والأقوى، الذي لديه حق الفيتو على كل شاردة وواردة، ويستطيع الترهيب والضغط والتلويح بالعنف أو بتعطيل البلد والمؤسسات، تصبح تلك "التوافقية" اسماً ملطفاً للهيمنة. وعدا أنها تفرغ العملية الانتخابية من أي فحوى، تتحول عملية إنتاج السلطة إلى كونها "صفقة" لا دخل للناخبين فيها.

ثم من تداعيات تلك الهيمنة الثقيلة أن الجميع لا يستطيع الاعتراض أو الاختلاف. كما أن بقاء الأحزاب أو ممثلي الطوائف في السلطة، يفرض عليهم الإذعان أو الاكتفاء قدر الإمكان بتحسين شروطهم وحسب. أما من يخالف ذلك فهو مهدد لا فقط بالتهميش بل بالخروج كلياً من المشهد خاسراً أي تأثير.

عدا ذلك، بدا واضحاً باستمرار أن حزب الله مع حلفائه، يفخخون أي حكومة بما يسمى "الثلث المعطّل"، أي أنه يضمن وجود عدد من الوزراء الموالين له، تكفل استقالتهم إسقاط الحكومة كلها. وبذلك، يسيطر على سير العمل الحكومي وعلى أي قرار في مجلس الوزراء.

بالتساوق مع هذا، يرأس نبيه برّي مجلس النواب منذ ثلاثة عقود وهو الحليف الوثيق للحزب ويشكل معه ما يعرف بـ"الثنائي الشيعي". ويتكفل الرئيس برّي بإدارة مجلس النواب بما يتناسب مع رغبات الحزب وبقية الحلفاء. ولأن الحكومة "توافقية" وتمثل أحجام الكتل النيابية، يعجز المجلس النيابي عن مساءلة الحكومة أو انتقاد أدائها، طالما أن "التوافق السياسي" في البرلمان ينعكس تماماً في التركيبة الحكومية.

هذا يقودنا إلى حال لبنان الراهن. إزاحة الديموقراطية جانباً، تعطيل مجلس الوزراء، منع تبلور أي معارضة، شلل مجلس النواب. وهذا كان واضحاً جداً في تعطيل انتخاب رئيس جمهورية لمدة سنتين، إلى أن رضخ الجميع لإرادة حزب الله: وصول ميشال عون إلى الرئاسة عام 2016.

هكذا، انتهت "السياسة" بوصفها التعبير عن الصراعات بين أحزاب وجماعات ومصالح وشرائح اجتماعية وقوى اقتصادية أو طائفية.. تتنازع على رأي عام وعلى كسب انتخابات تخولها الوصول إلى السلطة وتنفيذ أجنداتها.

بعد خريف 2019، واندلاع الانتفاضة الشعبية، بدا واضحاً أن تعطيل السياسة خلق قطيعة بين أركان السلطة و"نظامها" وبين اللبنانيين الذين كان اندفاعهم إلى الشوارع هو للتعبير عن قناعتهم أن من يمسك الدولة لا يمثلهم، ولا يعير إرادتهم أي اعتبار. وقد نشأ عن ذلك تباين شاسع بين مصلحة أغلبية اللبنانيين وتطلعاتهم ومصلحة أهل السلطة. كان ذلك أشبه بسحب "الشرعية الشعبية" وسحب أي تفويض لـ"ممثلي الشعب" أعضاء البرلمان أو الحكومة أو متبوئي المناصب العليا.

مع سقوط "حكومة الظلال" التي ترأسها حسان دياب، وهي الحكومة التي هندسها حزب الله وحليفه جبران باسيل، وفشل دورها التمويهي بالقول إنها "تكنوقراط"، وصل لبنان إلى الحائط المسدود. انهيار الدولة بات مرئياً. وبالمقابل، تمركز السلطة بيد حزب الله أصبح جلياً أكثر. وفي الحالين، يمكن القول إن حسن نصرالله سجل انتصاراً جديداً: اغتيال السياسة.

على نحو ما، وطالما أن لبنان يقع تحت هيمنة حزب واحد، يذكرنا هذا بما فعله البعث في سوريا، وخصوصاً بعد العام 1970، حين نجح حافظ الأسد بنفي السياسة من داخل سوريا وصادرها. لقد اتبع الأسد الأب أسلوباً ماكراً في فصل الأحزاب والقوى السياسية عن الناس. كما نجح في إفراغها من أي مقومات "معارضة" التي صارت رديفة "الخيانة". ثم إن جرعات موزونة من الزبائنية والاستتباع وتوزيع مصادر الانتفاع مع إظهار الشكيمة والقسوة والعنف والترهيب، أدى إلى فصل المجتمع عن "السياسة" وعطّل أي إمكانية لظهور الإرادات المختلفة أو التناقضات الطبيعية بين فئات المجتمع.

انسحب هذا على الإعلام، كما على وسائل التعبير، وعلى كل عمليات الانتخاب، أكانت بلدية أو نيابية أو نقابية.

بالطبع ليست التجربة اللبنانية مطابقة للتجربة الأسدية.. حتى الآن. ليس بسبب اختلاف المجتمعين اللبناني والسوري (وفي تاريخ التجربة السياسية في كل من البلدين)، لكن لأن العالم اليوم أقل تسامحاً إزاء تكرار التجربة الأسدية في لبنان، وخصوصاً بعد المقتلة الرهيبة التي خاضها بشار الأسد، ومعه حزب الله.

ومن الواضح أن الانهيار اللبناني عاد ليكون بنداً في الاهتمام الدولي، الفرنسي والأميركي خصوصاً، لا كفرصة لخنق حزب الله، أو لتوكيد بعض الحرص على ما تبقى من معنى للكيان اللبناني، ولكن تحديداً لمنع وقوع لبنان نهائياً بيد إيران، أو لدرء حرب أهلية (كما قال الرئيس الفرنسي)، ليست أوروبا مستعدة لتلقي تداعياتها.

و"التدخل" الغربي في لبنان، سيكون عملية شديدة التركيب والتعقيد. إذ لا يمكن تكرار الغزو العراقي، ولا حتى تكرار حرب 2006. إنها مزيج سياسي اقتصادي لا يضيره بعض "الاستعراضات العسكرية"، كما لا يبتعد كثيراً عن حراك الداخل الشعبي والمدني وكل ما يشكل اعتراضاً ومشروع معارضة.

ولبنان هنا أمام خيارين: إما عودة السياسة أو السقوط في هوة الفوضى والحروب.