"تصغير الكيانات" يطال إيران كمشروع انتفت الحاجة إليه

2020.03.11 | 23:00 دمشق

8-4-540x268.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن الاتفاق الذي توصلت إليه الولايات المتحدة الأميركية مع حركة طالبان الأفغانية أمراً بسيطاً أو تفصيلياً. فهو يأتي بعد سنوات من القتال والحروب، ليثبت معادلة وحيدة، أن لا عداوة دائمة ولا تحالف دائم في السياسة والإستراتيجيات، وليثبت أيضاً أن كل مرحلة لها ظروفها التي تتغير بالانتقال إلى مرحلة أخرى. كانت حركة طالبان، كما كل حركات التطرف الإسلامي، أو الإسلام السياسي، لها هدف محدد هو مواجهة الاتحاد السوفييتي، لكنها أيضاً في بنيتها الجوهرية وانعكاسها على البنى السياسية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط، كانت تهدف إلى مواجهة أي مشروع تقدمي أو إجهاض أي مشروع لإنشاء دول وطنية مدنية متطورة.

فالإسلام السياسي هو الذي برّر عسكرة المجتمعات العربية، ومكّن الاستبداد الديكتاتوري من فرض نفسه على رقاب مواطني هذه الدول ما منعها من تحقيق أي تقدم أو تطور سياسي واجتماعي، وفي عمق هذه النماذج التي أُسست في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت الخلفية تأمين تأبيد إسرائيل كمشروع عنصري وقومي يهودي، تتنامى على ضفافه مشاريع قومية وعنصرية أخرى، عاشتها المجتمعات المتنوعة، كحال لبنان والصراعات التي دخل فيها منذ الخمسينيات إلى اليوم، بينما المجتمعات غير المتنوعة، كحالة مصر وليبيا مثلاً كان لا بد من إدخالها في صراعات بين العسكر والإسلاميين، أما سوريا والعراق فكانت الحسابات فيهما مختلفة نظراً للتنوع الموجود، فسيطرت الديكتاتوريات بذريعة العروبة والعلمانية بمواجهة الإسلام السياسي.

كان الهدف الأكبر، هو مواجهة الاتحاد السوفييتي، والتي استخدم فيها التطرفان السنّي والشيعي لإسقاطه، من التحالف الأميركي التركي ودخول تركيا إلى حلف الناتو في العام 1952، وصولاً إلى التقاطع المصلحي مع الثورة الإسلامية في إيران والذي قابله إنتاج لتنظيم القاعدة لمواجهة السوفييت في أفغانستان. كان التطرف الإسلامي بشقيه أحد نتاجات وموجبات الحرب الباردة بين القطبين الدوليين، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتغيّر قواعد اللعبة وصولاً إلى ما بعد أحداث 11 أيلول، تغيّر الاهتمام العالمي برمّته.

تفكك الاتحاد السوفييتي، عنى أن مشاريع الدول الكبرى أو الدول المتوسعة قد انتهت، والعالم يتجه إلى كيانات مصغرة، تنحصر فيه مشاريع الدول داخل حدودها على أساس وطني أو قومي. في حين بقيت منطقة الشرق الأوسط مشتعلة بصراعاتها الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية. دخول روسيا ما بعد الاتحاد إلى النظام العالمي الجديد، غيّر من الاهتمامات والأولويات، عالمياً يجتمع الروس والأميركيون

الاتفاق الأميركي الروسي مع النظام العالمي الجديد يفرض تحجيم الكتل الكبرى، كالاتحاد الأوروبي، دول مجلس التعاون الخليجي من خلال الصراعات بين دوله، وأيضاً يهدف إلى ضرب القوى السنية والقوى الشيعية

اليوم على ضرورة تحجيم وتهشيم الاتحاد الأوروبي، ومواجهة الصين اقتصاديا للدخول في اتفاق تشاركية معها. أما في الشرق الأوسط فيجتمع الروس والأميركيون على حماية إسرائيل الإستراتيجية، وهذه الحماية لا يمكن لها أن توفر بدون تزكية الصراع السني الشيعي، أو ما يعرف بصراع الأقليات مع الأكثرية، على أسس مذهبية أو قومية أو عرقية.

وبالتالي فإن الاتفاق الأميركي الروسي مع النظام العالمي الجديد يفرض تحجيم الكتل الكبرى، كالاتحاد الأوروبي، ودول مجلس التعاون الخليجي من خلال الصراعات بين دوله، وأيضاً يهدف إلى ضرب القوى السنية والقوى الشيعية. أي ضرب إيران ومشروعها وتركيا ومشروعها. ما بعد أحداث 11 أيلول، انطلقت معركة النظام العالمي الجديد في الشرق الأوسط مع مواجهة التطرف السنّي، والذي بقي سيفاً مسلطاً على رقاب دول الخليج العربي، تطور الصراع إلى استهداف مباشر للكتلة السنية الكبيرة، كاستنزاف دول الخليج مالياً وسياسياً، وإغراقها في مواجهات مع إيران الشيعية مثلاً، وهذا الصراع الذي انعكس في الدول العربية من العراق إلى سوريا ولبنان، حيث انعدم أي دور أو تأثير للمجموعات السنية في هذه الدول، وأصبحت ضعيفة إلى الحد الذي تتجاذب فيه القوى الأخرى، كالعلويين في سوريا، والشيعة في العراق، والشيعة في لبنان وبدرجة ثانية المسيحيون بينما لم يعد للسنة أي دور مؤثر، هذا يترافق مع الإجهاز على القضية الفلسطينية بموجب صفقة القرن، والتي لا تنفصل عن انسحاب السعودية من أدوارها الخارجية والاهتمام بشأنها الداخلي، كما هو الحال بالنسبة إلى انسحابها من سوريا ولبنان والعراق، بينما مصر منشغلة بهمومها وأوضاعها الداخلية.

تركيا أيضاً لم تكن بعيدة عن حرب الاستهداف والاستنزاف، سواء في سوريا حيث لا تلقى أي دعم أميركي أو أوروبي لبناء منطقة آمنة وحماية حدودها، أو حماية الثورة السورية التي جرى تصويرها عمداً وخبثاً بأنها ثورة سنية، فيما أصبحت تركيا مهددة في داخلها بصراع قومي تركي كردي، أو طائفي سني علوي، وما قبل ذلك كل محاولات إضعافها من خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016. وتستمر تركيا بالتعرض للمواجهة من الأميركيين والروس والعرب معاً.

كان لإيران دور كبير في ضرب المشاريع العربية والمشروع السني من خلال إنتاج التطرف لدى البيئة السنية التي يسهل استهدافها وفق موجبات النظام العالمي الجديد، الذي ركز ما بعد 11 أيلول على مواجهة التنظيمات المتطرفة. وهي عملت على تحقيق هذه السياسة العالمية من خلال ضرب أي مفهوم وطني أو تقدمي عربي، وإنتاج العصبيات المذهبية. جزء كبير من هذا المشروع قد تحقق، لكنه حتماً لن يحمي إيران من ارتداداته، فبعد مرحلة استهداف السنية السياسية سيتم استهداف الشيعية السياسية وإيران قبلتها، هذا ما توجبه معركة تصغير الكيانات، ولذلك فإن كل الضغوط الاقتصادية والمالية والسياسية والعسكرية على إيران تصب في هذه الخانة، وهي قابلة للتطور في المرحلة المقبلة، الضربة التي تعرض لها حزب الله في إدلب قبل أيام، تشكل مؤشراً إلى أنه دفع ثمن توسع رقعة انتشاره، وهذا سيطال إيران في مرحلة لاحقة.