تشاوشيسكو.. "الغطرسة" رسالة الديكتاتور الأخيرة (2)

2021.06.15 | 06:17 دمشق

t-620x380.jpg
+A
حجم الخط
-A

غادر تشاوشيسكو العاصمة هارباً، بعد أن تأكّد أنه فقد ولاء الجيش والقوى الأمنية، حين رفض الجنود طاعة أوامر قادتهم في قمع التحرك. والأهم أنه وصل إلى يقين بأن المواطنين الرومانيين المحرومين من الكهرباء والماء والوقود، والذين يقضون جلَّ أوقاتهم في الطوابير لساعات من أجل الحصول على الخبز والجبن والزيت، وكل أنواع الاحتياجات الأساسية، كانوا قد سلكوا طريق اللا عودة.

بالإضافة إلى كونه "ديكتاتوراً لا يرحم ومستعداً لاستخدام أي قوة يراها ضرورية" حسب وصف أحد الديبلوماسيين الغربيين، فقد اختلف تشاوشيسكو عن القادة الشيوعيين الآخرين في المنطقة من خلال بناء قاعدة قوة مستقلة عن الاتحاد السوفييتي. فبينما احتفظ زعماء الدول الشرقية بالسلطة لسنوات، لأن موسكو كانت على استعداد لدعمهم بالقوة، وسقطوا فوراً عندما لم يعد بإمكانهم استدعاء القوّة السوفييتية. فإن تشاوشيسكو على النقيض من ذلك، أكّد في العديد من المواقف استقلاليته، خصوصاً موقفه الشهير بإدانة الاجتياح السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، إضافة لاتخاذه مسارات سياسة خارجية مختلفة عن السوفييت، وبناء علاقات جيدة مع الغرب. رغم ذلك يبقى أن اللحظة التاريخية المفصلية، خلال تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار سلطات دول المحيط التابعة له، وعموم الظرف الدولي آزر الرومان في ملحمتهم لإنهاء واحد من أبشع أشكال الحكم في شرق أوروبا.

الانتهاكات التي بدا أنها غدت من مألوفات الحياة العادية في رومانيا هي ما أوصل الشعب إلى الانفجار العظيم

إحدى اللافتات التي رفعت يوم 22 ديسمبر كتب عليها "تشاوشيسكو خنزير مُعَد للتصدير" في إشارة إلى سياسة التصدير الزراعية الصارمة التي اتبعتها الدولة لسداد الديون، مما جعل حياة الرومانيين غير قابلة للاحتمال. خلال فترة حكمه ترتّب على رومانيا ديون خارجيّة تقدّر بأحد عشر مليار دولار، ولتسديد تلك الديون قرر تشاوشيسكو تصدير كل ما تنتجه البلاد، ولم يترك لشعبه إلا النزر اليسير مما يسد الرمق. كان على المواطنين قضاء الشتاء في شقق غير مدفأة بينما تنعم الطبقة الحاكمة، وخصوصاً عائلة "الملك الشيوعي" بحياة يسودها البذخ في قصور ستتحول لمتاحف فيما بعد. طبعاً كل هذه الصعوبات تضاف إلى حالة الخوف من التنصت ومراقبة الشرطة السرية. تلك الانتهاكات التي بدا أنها غدت من مألوفات الحياة العادية في رومانيا هي ما أوصل الشعب إلى الانفجار العظيم.

بحلول صباح يوم 22 ديسمبر انتشرت الاحتجاجات في جميع المدن الرئيسية الرومانية. وتحوّل الجنود العادّيون بشكل جماعي إلى جانب الثورة. في حين تخلّى القادة عن تشاوشيسكو باعتباره قضية خاسرة ولم يبذلوا أي جهد للحفاظ على ولاء جنودهم للحكومة. قبل ثوانٍ من وصول المحتجين إليه تمكن الرئيس الخائف وإيلينا من الصعود إلى سطح مبنى القصر والهروب بطائرة مروحيّة. تاركين خلفهما أمة باقتصاد متهالك ومن دون أية خبرات في التغيير السياسي. وشعب كان قد اعتاد على الهمس لفترة طويلة واحتاج فجأة للحوار العلنيّ، والأهم لإنشاء هياكل سياسية جديدة.

يوم 24 ديسمبر تم القبض على الزوجين قرب منطقة "تراغوفيست". بعد أن أمضيا اليومين السابقين في مقر إقامة مؤقت. بدأت محاكمتهما وانتهت في يوم عيد الميلاد 25 ديسمبر في ثكنة عسكرية (الثكنة تحولت عام 2013 لتغدو "متحف إعدام تشاوشيسكو"). انعقدت المحكمة في غرفة صغيرة بأوامر من جبهة الإنقاذ الوطني، الحكومة المؤقتة التي التأمت على عجل من كتّاب وفنانين وضباط وقادة طلاب ومسؤولين سابقين، لتسيير أمور البلاد. واجه الزوجان تهماً من بينها جمع الثروات بطريقة غير قانونية، وارتكاب الإبادة الجماعية. كان طريفاً أن "دان فواينا" المدّعي العام في المحكمة سيخاطب إيلينا بالسيدة "كودوي"، وهو لقبها الذي كان الرومان يتداولونه سرّاً. في محادثة لها مع بعض المختصين، أخطأت "عالمة الكيمياء" الحاصلة على كثير من الجوائز لإنجازاتها العلمية، أخطأت بلفظ وتهجئة اسم مركّب "ثاني أكسيد الكربون" المعروف لأي تلميذ، ولفظته "كودوي" الكلمة التي تعني باللغة الرومانية "الذيل الكبير". لمرة واحدة وأخيرة ستسمع إيلينا لقبها هذا في المحكمة.

في نهاية المحاكمة التي استمرّت أقل من ساعتين، حُكم على الزوجين بالإعدام وتلقى الجنود الأوامر للتنفيذ الفوري. عندما وصل المحكومان إلى جدار الإعدام، بدأ الجنود وقبل أن يتلقوا أمر التنفيذ بإطلاق النار. في وقت لاحق من ذلك اليوم، تم عرض مقتطفات من المحاكمة، وعملية الإعدام على التلفزيون الروماني. بعد سنوات طويلة سيصف "إيون إليسكو" الرئيس المؤقت لرومانيا، المحاكمة بأنها "صورية ومخزية للغاية، لكنها كانت ضرورية" من أجل إنهاء حالة الفوضى التي سادت البلاد في الأيام الثلاثة التالية لفرار تشاوشيسكو من بوخارست، وكان بديل المحكمة المتسرّعة، أن يمزق المتظاهرون الغاضبون جسد الديكتاتور في شوارع بوخارست. ستقول امرأة خمسينية وهي تشاهد النساء والرجال يحتفلون بإعدام الديكتاتور "بكيت اليوم من أجل شبابي الحزين والبائس، كانت لدينا حياة رهيبة بدون طعام وبدون حرية ولا ثقافة. حسناً الآن ستعيش ابنتي بطريقة أفضل".

ستقدّر تقارير المشافي في عموم رومانيا عدد ضحايا أسبوع الثورة بما لا يزيد عن ألف قتيل، رغم أن بعض التقارير الإخبارية كانت قد بالغت جداً بالأرقام. من بين أولئك الألف، كان تشاوشيسكو وزوجته القوية إيلينا، غادرا هذا العالم بطريقة غير مألوفة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. فلم يحدث في رومانيا الحديثة أن أعدمت أية امرأة قبل إيلينا، ولن يعدم بعدهما أي روماني لأن عقوبة الإعدام ستلغى.

ستصل لتشاوشيسكو آلاف الرسائل المشفرة من أولئك المصفقين. رسائل على هيئة "نكات"، لكنه لم يكن حصيفاً ليقوم بأية مراجعة لسياسات القمع والتجويع

عَودٌ على بدء. قبل أسبوع من موته، اعتقد تشاوشيسكو أنه يقبض على مقاليد السلطة، متجاهلاً كل الإشارات التي تقدّمها الحقائق على الأرض. بل وفقد القدرة على قراءة حتى الرسائل المباشرة التي تأتي من الشارع، وأقواها رسالة الكمثرى. صحيح أنه لم يصف معارضيه لا بالجراثيم ولا بالثيران، لكنه مثل أي ديكتاتور كان من الغفلة، بأنه تحدى وقائع الأرض بصلافة، ولم يفهم حتى بعد أن أينع الأجاص على شجر الحور. خلال 24 عاماً أجبر تشاوشيسكو 22 مليون رومانياً أن تكون فاعليتهم السياسية الوحيدة هي التصفيق. خلال ربع قرن، ستصل لتشاوشيسكو آلاف الرسائل المشفرة من أولئك المصفقين. رسائل على هيئة "نكات"، لكنه لم يكن حصيفاً ليقوم بأية مراجعة لسياسات القمع والتجويع. بعد موته ستنتشر في الصحف النكات التي كان يتم تداولها بين الرومانيين عنه.

أصدرت الحكومة طابعاً بريدياً عليه صورة "الرئيس المُلهَم". ذهب تشاوشيسكو متخفيًا إلى مكتب البريد ليعاين بنفسه كيف يُباع طابعه. سيخبره الموظف أن الطابع ليس للبيع بسبب أنّه لا يلتصق. مستغرباً، يطلب تشاوشيسكو واحداً منها، ويبصق على جهة المادة اللاصقة، ويضعه على مظروف، ويتوجه للموظف قائلاً: "لماذا تقول إنه لا يلتصق؟ انظر، لقد التصق". سيجيبه الموظف: "نعم، لكن جميع الناس يبصقون على الجانب الآخر".