تشاوشيسكو.. "الغطرسة" رسالة الديكتاتور الأخيرة (1)

2021.06.08 | 06:42 دمشق

hqdefault_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

يحدث أحياناً أن تكون رسائل القوة والغطرسة هي الرسائل الأخيرة للديكتاتور. نذكر جميعنا سؤال القذافي الاستنكاري "من أنتم؟" الذي كرّره بمواجهة من ثاروا للخلاص منه، ومن جنون العظمة الذي أصابه خلال سنوات حكمه. بعد طرحه سؤاله الاستعلائي بأيام سيذهب الرجل إلى مصيره. المرجح أنه حتى لحظة موته كان مازال يردد السؤال ذاته الذي سيتحول مثالاً للتندّر. قبلهُ كان العديد من قادة المنطقة يرددون "نحن لسنا تونس" في إشارة تشي بالغطرسة، إلى أنه لن يحدث في بلدانهم التي يحكمونها ما جرى في تونس، حيث سقط الرئيس "بن علي". لم يُعرف من قبل في أي مكان من العالم، أن نظاماً مهما كانت طبيعته، جاء بما يخالف رصانة التاريخ وبقي إلى الأبد، فالتاريخ عجوز وقور لا يعترف بالأبد.

"عندما تتدلى ثمار الكمثرى على أشجار الحور، يمكن أن يحدث التغيير في رومانيا"

في الأيام الأخيرة من عام 1989، علّق "نيقولاي تشاوشيسكو"، ديكتاتور رومانيا الملقّب بالملك الأحمر على سؤال صحفي عن التغييرات التي تجتاح دول أوروبا الشرقية بعد "البيروسترويكا" بجملة سيحفظها له التاريخ: "عندما تتدلى ثمار الكمثرى على أشجار الحور، يمكن أن يحدث التغيير في رومانيا". أدلى الرجل بتلك الرسالة المليئة بالثقة، خلال زيارة قام بها إلى إيران في 18من ديسمبر قبل مقتله بأسبوع واحد. يومها، وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ستشيد بالشعب الروماني باعتبار رومانيا "الدولة الوحيدة في أوروبا الشرقية التي تلتزم بحكومتها".

قبل الزيارة بيوم واحد، كانت هناك أخبار تتسرب عبر محطات إذاعية غربية عن مجزرة حدثت في "تيمشوارا"، المدينة الرومانيّة الواقعة غربيّ البلاد قريباً من الحدود الهنغارية، حيث سيتصدر اسمها وسائل الإعلام في تلك الفترة. بدأت احتجاجات "تيمشوارا" عندما تحول تحرك جماهيري محدود إلى مظاهرات عارمة. كانت الحكومة قد رعت قراراً يرمي إلى نفي القس البروتستانتي المنشق "لازلو توكيس" بتهمة التحريض على الكراهية العرقية. يوم 17 من ديسمبر أحاط مواطنون من أصول هنغارية ببيت القس دعماً له، لينضم بعدها الطلاب إلى المظاهرة التي سرعان ما فقدت كل الصلة بقضيتها الأولية، وتحوّلت لتكون مناهضة للديكتاتور. تدخلت الشرطة وقوات الجيش وفتحت النار على المتظاهرين، مما أسفر عن مقتل وإصابة الكثير من الرجال والنساء والأطفال.

كانت زيارة تشاوشيسكو إلى إيران في اليوم التالي لحدث بهذا الحجم، واحدة من رسائل الغطرسة وفرط الثقة بالنفس وبالعائلة التي تسيطر على المناصب الحساسة في أجهزة الدولة، حيث ترك الديكتاتور مهمة سحق تمرد Timișoara"" لمرؤوسيه وزوجته. عندما عاد تشاوشيسكو إلى رومانيا يوم 20 من ديسمبر، وجد أن طلاباً من كلية المسرح والسينما في جامعة بوخارست قد جمعوا ما استطاعوا من ثمار الكمثرى (الإجاص)، وعلّقوها على الأشجار التي تصطف على جانبي واحد من أهم شوارع العاصمة. تلك كانت رسالة الردّ. رسالة ذات دلالة غير مسبوقة خلال حكمه الذي استمر 24 عاماً جحيميّاً. أثار هذا الرد التهكّمي الرئيس، وبأوامر منه، ويُقال من زوجته إيلينا، قامت الشرطة السرية بالتعرف على "الطلاب الجناة"، وهاجمتهم واعتدت عليهم في مهاجعهم، ووقع عدد من الطلاب القتلى.

تؤكد جميع المصادر بأن إيلينا تشاوشيسكو زوجة الديكتاتور لم تكمل دراستها الابتدائية، وأنها التحقت بسوق العمل في سن مبكّرة. ومع ذلك كانت وسائل الإعلام الرومانيّة تطلق عليها لقب "سيّدة العلوم"، حيث لا ياسمين في بوخارست لتكون سيّدته. وفقًا لتقرير بثّته إذاعة أوروبا الحرة عام 1984، فإن رغبتها بالحصول على الدكتوراه من كلية الكيمياء في بوخارست، جوبهت بمعارضة ورفض شديد من الكيميائي الروماني المعروف "كوستين دي" الذي طُلب منه الإشراف على أطروحتها، ما دعاها إلى التحول إلى مشرف آخر في جامعة "ياش". المشرف الجديد المتفهم سوف يمنحها العلامة التامة. كانت المفارقة أن إيلينا تشاوشيسكو لم تكن حاصلة على البكالوريوس، لكن قوة زوجها ضمنت لها درجة الدكتوراه في الكيمياء. صاغ لها مختصون كامل محتويات أوراقها العلمية. ومنذ تلك اللحظة سيمنع على كل وسائل الإعلام الرومانية ذكر اسم إيلينا دون أن تسبقه عبارة "عالمة الكيمياء الشهيرة دولياً"، ومعلوم لنا هوس أفراد عائلات الطغاة المرضي بنيل شهادات الدكتوراه المزيّفة. إيلينا ستصبح الشخص الثاني من حيث التأثير في البلاد (كثيرون يعتبرونها الأول).

مفاجأة تشاوشيسكو وتعابير الذهول على وجهه عندما بدأ الجمهور بالهتاف ضدّه خلال خطابه، ستغدو من بين أكثر الصور التي تم بثها في التقارير التي تتناول التحوّلات في أوروبا الشرقية

كما يجري في معظم البلدان التي تحكمها الديكتاتوريات، قامت الأجهزة الحزبية يوم 21 من ديسمبر، بحشد الطلاب والموظفين بالترهيب، للتجمع أمام مبنى اللجنة المركزية للحزب. إضافةً للحديث عن إنجازات "الثورة الاشتراكية"، استمع الجمهور في خطاب تشاوشيسكو أمام المحتشدين عن "المؤامرة والاعتداء الخارجي على سيادة الدولة"، طبعاً مع إلقاء اللوم عن "أعمال الشغب" في تيميشوارا على "المحرّضين الفاشيين" الذين يريدون تدمير الاشتراكية. قدمت وسائل الإعلام الرسمية ذلك التجمع على أنه حركة "عفوية" من الشعب الروماني لدعم وتأييد السيد الرئيس. كانت الكلمة منقولة مباشرة على التلفزيون والراديو الوطني. بعد قرابة ثماني دقائق من خطابه، بدأ الجمهور الذي عرف ما يجري في أنحاء البلاد من "الإذاعات الأجنبية"، بصيحات الاستهجان، وترددت هتافات "تيمشوارا". للطرافة، وهذا ليس مؤكداً، يقال إن رجلاً مخموراً هو من بدأ بالهتاف ضد الديكتاتور. حاول تشاوشيسكو إسكاتهم برفع يده اليمنى ودعوتهم لمتابعة سماعه. سوف يسمع أحد مصوري التلفزيون إيلينا الواقفة قرب زوجها، تطلب منه وتحثّه أن يعدهم بزيادة الراتب، وبتوفير الحاجات الضرورية، واستجاب لها فعلاً، فأعلن عن رفع الحد الأدنى للأجور بمقدار 200 ليو، لكن الأوان كان قد فات. عادت الهتافات أقوى، وارتجّت الكاميرات في أيدي المصورين، غابت صورة الرئيس والحضور، وراحت الكاميرات تصوّر المباني المحيطة، بينما كان يُسمَع هدير الجمهور، وصوت الديكتاتور وهو يطلب من "الرفاق" الهدوء. تم قطع البث التلفزيوني، وغادر تشاوشيسكو الشرفة هارباً من الحشود. ليشهد بقية اليوم ثورة مفتوحة لسكان بوخارست، وغيرها من المدن الرومانية. مفاجأة تشاوشيسكو وتعابير الذهول على وجهه عندما بدأ الجمهور بالهتاف ضدّه خلال خطابه، ستغدو من بين أكثر الصور التي تم بثها في التقارير التي تتناول التحوّلات في أوروبا الشرقية.

في 22 من ديسمبر، اليوم التالي لخطابه الأخير، فرّ الديكتاتور مع زوجته "عالمة الكيمياء المشهورة دوليّاً" بمروحيته الخاصة، في طريقه إلى مصير "تراجيدي" ما زالت صوره عالقة في الذاكرة الرومانية حتى اليوم.