تركيا وعملية التطبيع الإقليمية بين التحول وتصفير المشكلات

2022.04.27 | 06:11 دمشق

thumbs_b_c_ddb4838e438f2bf378e2b9586ecb68d4.jpg
+A
حجم الخط
-A

يربط كثيرون ما تقوم به تركيا من تطبيع لعلاقاتها مع كل من السعودية ومصر والإمارات وإسرائيل وأرمينيا وحتى مع النظام السوري وفق بعض التغطيات الإعلامية بشعار تصفير المشكلات الذي طرحه رئيس وزراء تركيا الأسبق أحمد داود أوغلو وطبّقته تركيا في عام 2009 بشكل واضح. ولكن في الحقيقة يبدو أن هناك ثمة اختلافات بين ما يدور حاليا وبين ما مثّله شعار تصفير المشكلات مع دول الجوار.

لا بد هنا في البداية أن نؤكد أن مصطلح تصفير المشكلات هو مصطلح مجازي يشير إلى تقليل المشكلات أو تقليل تأثيرها على تطور العلاقات، وليس إزالتها تماما لأن هذا هدف شبه مستحيل وخاصة في بيئة مثل بيئة تركيا.

يوجد شعار آخر في تركيا سابق لشعار تصفير المشكلات مع دول الجوار وهو "سلام في الوطن سلام في العالم" أطلقه مصطفى كمال أتاتورك بعد تأسيس الجمهورية وذلك للتطمين الداخلي والخارجي المتعلق بالحفاظ على الحدود الوطنية للجمهورية التركية من دون التدخل في الخارج، وما تبعه من عملية حوار دبلوماسي حول عدة إشكاليات خارجية منها مشكلة الموصل مع بريطانيا والمضائق مع روسيا والتي تم حلها باتفاقية مونترو عام 1936 وغيرها من الإشكاليات.

وبعد قدوم حزب العدالة والتنمية بدأ الحزب مرحلة انفتاح اقتصادي على دول الجوار ودول المنطقة العربية التي كانت العلاقات معها ضعيفة بسبب التحول الغربي لتركيا بعد إنشاء الجمهورية مما جلب معه ضرورة حل أو تجاوز بعض الإشكاليات وكان يحمل فرصا كبيرة في العلاقات خاصة أن تركيا كانت دولة صاعدة منسجمة مع توجهات المجتمع الدولي.

وجدت تركيا نفسها معزولة أمام لاعبين قد تكون هي تهديدهم الوحيد الذي يجمعهم مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا واليونان وقبرص وأرمينيا والسعودية والإمارات ومصر وإسرائيل وإيران ونظام الأسد وحفتر في ليبيا

بعد فترة قليلة ربما 8 سنوات من حكم حزب العدالة والتنمية بدأت تظهر بعض التوجهات كالخلافات مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، كما ظهر بين أردوغان وبيريز في دافوس وظهر بشكل واضح في فترة الثورات العربية حيث ظهرت تركيا كدولة متحدية للنظام الإقليمي، وحتى لقوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا في بعض القضايا.

وجدت تركيا نفسها معزولة أمام لاعبين قد تكون هي تهديدهم الوحيد الذي يجمعهم مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا واليونان وقبرص وأرمينيا والسعودية والإمارات ومصر وإسرائيل وإيران ونظام الأسد وحفتر في ليبيا، وبدأت على سبيل المثال دولة مثل اليونان تستفيد من هذه العزلة التركية وتتلقى الدعم الاستراتيجي من هؤلاء الفاعلين في صورة دعم عسكري وسياسي واتفاقيات بحرية وغيرها. ولتفكيك هذه التحالفات التي تجمعت على استبعاد تركيا كما رأيناها سواء في صورة تجمعات للطاقة مثل منتدى غاز شرق المتوسط أو تحالفات لإعادة صياغة البنية الأمنية والقيادية للمنطقة كما رأينا في صفقة القرن واتفاقيات أبراهام وأخيرا قمة النقب، سعت تركيا إلى إعادة تقييم موقفها للخروج من حالة سيصبح وضعها فيها أكثر تعقيدا ويبدو أنها أخذت قرار الخروج من هذه الحالة مع وجود جملة من المكاسب التي حققتها في ليبيا وفي دعم قطر وفي كاراباخ في أذربيجان وبالتالي أرادت أن تبدأ فترة جديدة تحافظ فيها على المكاسب التي حققتها.

ويمكن لنا أن نسجل بسهولة أن عوامل مثل تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في الداخل وتراجع الاقتصاد التركي بمؤشرات التضخم وضعف العملة وتراجع الاستثمار الخارجي كان لها دور كبير في اتخاذ قرار تطبيع العلاقات الإقليمية، إذ إن السياسة الداخلية مرتبطة بشكل أساسي بالسياسة الخارجية والعكس صحيح.

لذلك هناك فرق في المنطلقات بين عملية تصفير المشكلات مع دول الجوار وعملية التطبيع الجارية حاليا. لقد كان حزب العدالة والتنمية صاعدا في 2009 ويشكل الحكومة بمفرده وكانت تركيا بمثابة نموذج للجيران، بينما يجد حاليا صعوبة مع وجود حليف هو حزب الحركة القومية في ضمان فوزه في الانتخابات القادمة كما أن تصفير المشكلات التي تم الحديث عنها سابقا لم تكن حكومة حزب العدالة والتنمية مسؤولة عنها بل جاءت بعد مرور عقود عليها، في حين تأتي عملية التطبيع الحالية في ظل حالة من عدم الثقة بسبب وجود المسؤولين عنها من كافة الأطراف على رأس أعمالهم.

تبدو تركيا حاسمة في المضي في التطبيع ومع ذلك إن ما يحدث اليوم هو تغيير اضطراري ومناورة واسعة وفي بنية هشة على مستوى الثقة على الأقل وليس معروفا هل سيجلب لتركيا ما تريده

نسبيا لم تكن عملية تصفير المشكلات تستوجب استدارات مفاجئة وبزاويا غير متوقعة كما حدث مع الإمارات وإسرائيل على سبيل المثال، وبالتالي لم تكن تخضع لمساءلات حول البعد الأخلاقي كما يحدث اليوم. تبدو تركيا حاسمة في المضي في التطبيع ومع ذلك إن ما يحدث اليوم هو تغيير اضطراري ومناورة واسعة وفي بنية هشة على مستوى الثقة على الأقل وليس معروفا هل سيجلب لتركيا ما تريده.

تبقى الإشارة إلى أن مسيرة التطبيع مع دول المنطقة كمصر والسعودية بالرغم من بطئها هي عملية متفهمة وهذه دول إقليمية مهمة ولا يمكن أن تستمر القطيعة معها أبدا، ولكن في حالة دولة احتلال مجرم يقتحم المسجد الأقصى في شهر مبارك ويروع المصلين المسلمين ويمنع المسيحيين الفلسطينيين من الدخول لكنيسة القيامة ويقتل السيدات في شوارع الضفة الغربية ستستمر هذه الحالة في إرباك مشهد التطبيع، إذ لا يمكن استيعاب منطق أن القدس والأقصى شيء والعلاقات التركية الإسرائيلية شيء آخر. هذا قد يكون مؤقتا لكن يستمر على الأغلب لأنه يبدو أنه لا يوجد رادع إقليمي لإسرائيل عن المضي في جرائمها سوى صمود الفلسطينيين محليا ولوجود حكومة ضعيفة تتسابق لإرضاء جماعات الهيكل.

لقد عالجت تركيا موقفها مؤخرا بقليل من الدبلوماسية التي بدت حتى أقل زخما من المرات السابقة. ومع ذلك لتركيا مواقف مشرفة في دعم القضية الفلسطينية ويليق بها أن تستمر عليها. أميل إلى أن هذه الحالة هي حالة مؤقتة لأن حالة التنافس ستتفلت مرة أخرى خاصة في ظل الفوضى التي ستزداد في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية وستظهر إشكاليات في المناطق الإقليمية.