تركيا.. معركة مصير منعاً لتصغير الكيان

2023.05.18 | 06:57 دمشق

تركيا.. معركة مصير منعاً لتصغير الكيان
+A
حجم الخط
-A

تشهد تركيا انتخابات مصيرية. وصفت بالانتخابات الأكثر أهمية خلال مئة عام. 100 سنة على ولادة الجمهورية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، فكان القرن التركي الأول أتاتوركياً. مع بداية الألفية الجديدة وصل رجب طيب أردوغان إلى السلطة والذي نجح في نقل تركيا من مكان إلى مكان آخر على صعيد تطور اقتصادي وصناعي وتسلحي بالإضافة إلى بروز ملامح لمشروع سياسي شرق أوسطي يرتكز على كثير من القواسم المشتركة مع المنطقة العربية. تصورات كثيرة يمكن أن يبنيها كثيرون حول أردوغان بوصفه القادر على استعادة روابط العلاقات مع القوى العربية في محاكاة لما كان عليه الوضع أيام السلطنة العثمانية. ما يريده أردوغان في هذه المعركة أن يكون القرن التركي الثاني أردوغانياً. فيما تجتمع المعارضة من كل أطيافها وأصنافها وبدعم دولي لإعادة الأتاتوركيين، ولذلك لم يكن من الصدف اجتماع الطاولة السداسية على ترشحي كمال كليتشدار أوغلو. 

تأتي الانتخابات التركية في حقبة من التحولات الاستراتيجية التي يمرّ بها العالم أو النظام العالمي. حاول أردوغان الرقص على رؤوس الأفاعي طوال السنوات الماضية، من الدول العربية والبحر الأبيض المتوسط إلى القوقاز، وصولاً إلى لعب دور أساسي في أوكرانيا بعد اندلاع الحرب الروسية، خصوصاً بما يتعلق باتفاقيات الحبوب وما يمس الأمن الغذائي العالمي. بالتوازي كان قد نجح في إعادة إصلاح العلاقات مع قوى متعددة، لا سيما دول الخليج ومصر وإسرائيل، إلى جانب تعزيز علاقته بروسيا وإيران، والاحتفاظ بالعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية ولكن مع استمرار التوتر والخلافات.

طموح أردوغان هو التوسع. فيما يتهمه خصومه بأنه يحاول بطريقة توسعه الاقتصادية أو العسكرية إعادة إحياء أمجاد السلطنة العثمانية

في مراقبة للأداء الانتخابي لأردوغان ومراجعة الأدبيات التي تجمع ما بين التاريخ والحاضر والمستقبل، يبقى الرجل متسلحاً بمقولة لجلال الدين الرومي: "هناك أمل بعد اليأس، والكثير من الشموس بعد الظلمة". تخلص هذه الأدبيات إلى استعادة غير مباشرة لما ترتكز عليه أسطورة تركية يُطلق عليها أسطورة البوزقورت والتي تقول: "إذا بقي تركي وحيد على وجه الأرض فهو عبارة عن أمة جديدة". تلك الأمة بمعناها التركي الحديث أو التركي الأردوغاني، لها بعد سياسي وإسلامي، بشكل يختلف كلياً عن الأمة التركية لدى مصطفى كمال أتاتورك، والذي كان تركيزه يتمحور حول القومية التركية وتعزيزها، بينما طموح أردوغان هو التوسع. فيما يتهمه خصومه بأنه يحاول بطريقة توسعه الاقتصادية أو العسكرية إعادة إحياء أمجاد السلطنة العثمانية، مستنداً إلى الروابط التاريخية والثقافية في بقعة جغرافية مشتركة لكنها واسعة ومترامية الأطراف. ومعروف عن أسطورة البوزقورت "الذئب الأغبر" أنها مستمدة تاريخياً من توفير هذا الذئب الحماية لأحد الأتراك الذي أنشأ الأمة التركية.

تكتسب الانتخابات أهمية استثنائية على أكثر من صعيد، خصوصاً ما يرتبط بحفظ التوازنات في منطقة الشرق الأوسط ككل، فيما يبقى الأهم هو إمكانية بناء مزيد من التفاهمات بين تركيا والدول العربية لا سيما أن الطرفين وجدا أنفسهما في مواجهة صراعات متعددة ذات نزعات أقلوية، وهذا مسار بدأ في الاجتياح الأميركي لأفغانستان وبعده اجتياح العراق ما دفع إيران إلى التقدم في المنطقة على حساب إضعاف العرب، أو السنّة بالمعنى الأوضح، وهو ما يظهر أكثر مع مشروع إيران في إرساء الهلال الشيعي في المنطقة، والذي هدفه تكريس انشطار "العالم السنّي" إلى تشظيات متعددة، أي ضرب الأكثرية الممتدة على مساحة واسعة من هذا العالم والتي ترتكز في يديها قوة العمل وقوة رأس المال، فيما عملية ضربها كانت بناء على استعادة صراعات تاريخية بينها ما يرتبط بصراع القوميات أو صراع الأديان والطوائف والمذاهب.

 خسر الأتراك والعرب معاً بنتيجة الصراعات التي اندلعت فيما بينهم بعد أحداث الربيع العربي، فساهمت هذه الخلافات في مزيد من التشظيات وتصغير الكيانات، وهذا مشهود في العراق، سوريا، ليبيا، السودان، وقد لامسته مصر من قبل. وفي حال كانت نظرية تصغير الكيانات صحيحة، وضرب الأكثرية التي تمتلك القوة البشرية والثروة، فإن هذا المشروع لا يمكن أن يتوقف عند هذا الحد، ولا بد له في المعنى الاستراتيجي أن يكون تتويجه باستهداف تركيا والمملكة العربية السعودية. فالأولى لا تزال مستهدفة بعمق منذ ما قبل محاولة الانقلاب في العام 2016 إلى ما بعده، واليوم في هذه المعركة الانتخابية. والسعودية استهدفت في ضرب حواضرها وأمنها القومي منذ محاولة ضرب البحرين إلى حرب اليمن.

كل هذه التطورات دفعت تركيا والسعودية إلى ترتيب علاقاتهما مع الدول الأخرى، كما ذكرنا سابقاً حول ترتيب أنقرة للعلاقات مع طهران، موسكو، الرياض، ودول الخليج الأخرى وإسرائيل بالإضافة إلى البقاء في حلف الناتو. فيما عملت الرياض على الذهاب إلى اتفاق مع إيران لإنهاء حرب اليمن ووقف الاستنزاف، وهو ما كان ثمنه تقديم تنازل في سوريا من خلال التطبيع مع النظام، والذي لا أحد يمكنه أن يراهن على التزام النظام السوري في أي من شروط التطبيع. لذلك سيكون هذا المسار خاضعاً لاختبارات كثيرة، وستنصب أفخاخ كثيرة حوله لمنعه من الوصول إلى نتائجه، ما يعني استمرار المسار الاستراتيجي في ضرب هذه الحواضن والتي تمثّل دولاً كبرى من حيث المساحة، والعدد السكاني والنمو الاقتصادي.

خسارة أردوغان للانتخابات ستعني بشكل أو بآخر أن مرحلة جديدة فتحت في تركيا والمنطقة للوصول إلى تصغير الكيانات من خلال جدالات كثيرة ستثار في الداخل التركي

تكفي مراقبة بعض الأدبيات السياسية التي تستخدمها المعارضة التركية لاستنتاج ذلك، سواء من حيث الشكل أو في المضمون. ففي الشكل اجتمعت المعارضة على دعم كمال كليتشدار أوغلو، فيما استخدمت أدبيات مستفزة في تركيا العلمانية، من قبيل الإشارة إلى انتماء أوغلو إلى الطائفة العلوية، والتحالف مع الأكراد في آن، وهو ما يكرس مفهوم تحالف الأقليات، الذي استدرج إليه آخرون أيضاً من أمثال ميرال أكشنار والتي أيضاً استخدمت أدبيات ذات دلالات مهمة إذ قالت: "ربما كان علينا مناصرة علي بوجه معاوية". يحصل كل ذلك في وقت تعيد دول كثيرة التطبيع مع النظام السوري "العلوي" والذي كرّس انتصار الأقلية العلوية في سوريا على حساب الأكثرية السنية التي أصبحت مهجرة في أصقاع الأرض.

مثل هذه الأدبيات، المعطوفة على مشاريع سياسية تهدد هذه البقعة الجغرافية وكياناتها، يمكنها أن تؤسس إلى ما هو أخطر في المرحلة المقبلة. وهذا سبب أساسي يضاف إلى أهمية الاستحقاق الانتخابي التركي، خصوصاً أن خسارة أردوغان للانتخابات ستعني بشكل أو بآخر أن مرحلة جديدة فتحت في تركيا والمنطقة للوصول إلى تصغير الكيانات من خلال جدالات كثيرة ستثار في الداخل التركي بنتيجة استخدام أدبيات دينية أو طائفية أو مذهبية، فذلك سيشعر "العلويين" في تركيا وسوريا بمزيد من القوة، وسيشعر الأكراد بذلك باعتبار أن أصواتهم كانت مرجحة في سبيل تحقيق هذا الانتصار. أما فوز أردوغان فمن شأنه أن يطلق هذا القرن الأردوغاني، ويبقي الوحدة التركية قائمة، على الرغم من استمرار الحملات والهجومات تأسيساً للاستحقاق المقبل، والذي سيكون الامتحان الأكبر والأخطر طالما أن أردوغان أعلن أن هذه آخر انتخابات يخوضها، وبالتالي هل سيكون هناك بديل من حزبه، أم أن خروجه الشخصي سيعني خروجاً سياسياً كاملاً لما يمثل، وحينذاك أيضاً لا بد من الاهتمام في مصير وجهة الكيان التركي وإمكانية تهديد وحدته مجدداً.