تدمير ما تدمّر أصلاً في الذاكرة السورية

2021.11.10 | 05:00 دمشق

645x344-1635844873440.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يسبق لنا، نحن السوريين، في تاريخنا المعاصر ما قبل 2011 (وأظن أن هذا ينطبق على التاريخ السوري كله إذ لم تعرف سوريا شكل الدولة والمجتمع المتجانس ذي الحيثيات الموضوعية منذ قرون عدة، فهي كانت دائما جزءا من بلاد الشام وابتلِيَت باحتلالات قمعية متعددة، خرجت منها إلى انقلابات عسكرية متتالية انتهت بأطول وأعنف سلطة قمعية واستبدادية قضت على كل ملمح أو أمل لنضوجها كدولة ذات قيم مجتمعية وهوية ثابتة)، لم يسبق لنا إذاً، في تاريخنا المعاصر كمجتمع أو كأفراد أن تمكّنا من إعطاء آراء موضوعية تخص ظاهرة / شخصية سورية ما، سواء فنية أو ثقافية أو رياضية أودينية أو علمية، أو أية ظاهرة أو شخصية سورية عامة، أو لها تأثير مباشر سلبياً كان أو إيجابياً على المجموع السوري العام، لم يكن الأمر حتى في وارد المجتمع، ربما كأفراد كان لكل منا رأي شخصي بظاهرة ما، نعبّر عنه في محيط ضيق من الأصدقاء أو العائلة لا أكثر، إذ لم تكن هناك منابر تتيح لأحد أن يعبّر عن وجهة نظره بشخصية ما، ومن كان متاحٌ له ذلك، ككاتب في جريدة من الجرائد القليلة في سوريا، أو كضيف في برنامج تلفزيوني أو إذاعي، فهو محكوم بسلسلة طويلة من الخطوط الحمر واللاءات التي عليه أن يلتزم بها تحت طائلة المنع من الكتابة أو الظهور أو التعبير، وأحياناً لن يتوقف المنع والمعاقبة على صاحب الرأي فقط، بل سيطول من سمح له بالكتابة أو الظهور أو الاستضافة إلخ..

المقالات النقدية التي كتبت في صحافة سبعينيات القرن الماضي الثقافية، على قلّتها، كانت تحكي بمفاهيم عامة ظاهرية، من دون مغامرة الدخول في العمق

ولم يكن الأمر سهلا أيضا لمن يتاح لهم منابر خارجية إن كانوا يعيشون في سوريا، ما يقولونه كان مراقبا أينما قالوه أو كتبوه، ثمة من كان يراقب كل كلمة يقولها علنا أي سوري في أي مكان في العالم، وثمة عقوبة تنتظره، أو على الأقل ثمة ما سيضاف إلى ملفه الأمني المحفوظ في فرع أمن ما في انتظار اللحظة المناسبة لكشف الملف ومحاسبة صاحبه. هل يمكن لأحد أن يتذكر أي نقد لأي شخصية فنية أو ثقافية أو دينية أو أية شخصية عامة، (طبعا الشخصيات السياسية هنا ليست أبدا في حسبان الأمر فهي أعلى حتى من الخطوط الحمر)، هل يتذكر أحد ما أي نقد علني طال أحد هذه الشخصيات في التاريخ السوري المعاصر خارج جلسات النميمة في المقاهي والبارات؟ شخصيا، وأنا واعية لهذه المرحلة جيدا بحكم وجودي ضمن محيط ثقافي وإعلامي طوال حياتي، لا أتذكر أنه تم في الإعلام السوري نقد حقيقي لأي شخصية أو ظاهرة سورية ما، وأقصد بالنقد الحقيقي، هو التشريح البنيوي للظاهرة أو للشخصية المعنية، كان هذا ممنوعا تماما، النقد كله كان موضوعا أساسا تحت بند الخط الأحمر، المقالات النقدية التي كتبت في صحافة سبعينيات القرن الماضي الثقافية، على قلّتها، كانت تحكي بمفاهيم عامة ظاهرية، من دون مغامرة الدخول في العمق، إذ إن ذاك يعني الإحالة إلى السياسة، حيث كانت السياسة بمعناها الإجرائي هي المسيّرة لأي ظاهرة، وهي وراء بروز أية شخصية عامة سورية، بدءا من الفن وليس انتهاء بالرياضة.

هذا جعل من السوريين يبدون كما لو أنهم جميعا يمتلكون الذائقة الفنية أو الثقافية ذاتها، يعجبون بنفس الشخصيات، أو يفكرون بالطريقة ذاتها وبنمط واحد ووحيد، تماما على طريقة العسكر، حيث كل شيء متشابه بدءا من اللباس حتى طول الخطوة في المسير، طبعا سيكون من نوافل القول إن القمع الشديد عبر عقود طويلة سوف يحيل أي مجتمع إلى مجتمع لا فرادة فيه لشيء أو لأحد، ولا اختلافات واضحة فيه للذائقة، ولا حضور قوي لأي شخصية أو ظاهرة، وبالتالي لا تميّز لأحد، إذ لا توجد معايير صارمة للنقد، يتيح التمايز والمفاضلة، كان يسمح بنقد الشخصيات غير المقربة من النظام أو غير المرضي عنها، أمّا ما عدا ذلك، فالاقتراب من الآخرين هو بمنزلة الاحتجاج على خيارات النظام في تقديم واجهته الفنية أو الثقافية أو الرياضية...إلخ.

بعد 2011، حين انطلقت الثورة وجوبهت بعنف غير مسبوق، انفجر المكبوت في المجتمع السوري وبدأ شيئا فشيئا يظهر إلى العلن ما كان مسكوتٌ عنه طوال العقود الماضية، كل الأراء والأفكار التي كانت تقال في الدوائر الضيقة جدا أصبحت تقال علنا، خصوصا مع الانتشار الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت منابر متاحة لجميع السوريين الذين عانوا طويلا من حقهم في التعبير عن آرائهم المغايرة أو المعترضة، ومع افتراقات الثورة والحرب العبثية التي أفقدتنا جميعا، نحن السوريين، أينما كنا، صوابية رؤيتنا التحليلية لأي حدث، بسبب سنوات الموت والدم والاختفاء والاعتقال والتهجير والهرب والخوف، وتحوّلنا إلى جلادين لتاريخنا، لم نعد قادرين على الخروج من ثنائية الانحياز التام إما مع أو ضد، فمن ليس معنا بالكامل من دون أي مواربة أو تردد فهو في نسق عدوّنا من دون تردد أيضا، غافلين بذلك عن الظرف الموضوعي لموقف أي شخصية، (السن والتاريخ الشخصي والعام والشرط النفسي واللوجستي وراء أي موقف)، هذا أيضا أفقدنا الموضوعية في نقد شخصية ما، فليس من الموضوعية في شيء اعتبار صباح فخري، الراحل قبل أيام بعد معاناة مع مرض الزهايمر، محدود الموهبة وذا قدرات صوتية متواضعة كما كتب العديد من السوريين إثر رحيله، لأنه لم يعلن موقفا ضد النظام، أو لأنه كان ذات يوم عضواً في مجلس الشعب رغم كتابة كثر عن ملابسات تلك الفترة الزمنية التي لم يكن أحد يجرؤ فيها على مخالفة رغبات النظام السوري مهما كانت، ومن فعلوا ذلك كان مصيرهم السجن المديد أو الموت أو النفي، وهي أثمان لا يستطيع الجميع دفعها، أو لا يريدون دفعها، وهذا حق من حقوق البشر بالمناسبة، أن لا تكون معنيا بالنضال السياسي والوطني هو شأن شخصي محض لا يجوز الاعتراض عليه، وإلا فعلينا جميعا، كسوريين، الاعتراف بخيانة النضال الوطني وبالجبن وبالتعامل مع النظام قبل 2011، لم يكن هناك سوى استثناءات قليلة جدا، فهل هذا عادل حقا؟

لماذا لا يمكننا الاعتراف بأهمية تلك الشخصية الإبداعية وانتقاد أو حتى شتم موقفها الأخلاقي من الحدث السوري في الوقت ذاته؟

شخصيا ومع كل رحيل لشخصية من الشخصيات السورية العامة، وما يحصل من انقسام مهول حولها، لا أستطيع أن أعرف لماذا لا يمكننا الاعتراف بأهمية تلك الشخصية الإبداعية وانتقاد أو حتى شتم موقفها الأخلاقي من الحدث السوري في الوقت ذاته؟ هذا الخلط بين الاثنين أظنه يندرج في إطار تحطيم، قد يكون غير واع، للذاكرة الجمعية السورية، وكأننا نريد نسف كل ما يمت لما قبل 2011 بصلة، نريد تدميره وتغييبه وفناءه، وهذا أمر خطير في رأيي الشخصي، لأنه يأتي من نفس النسق الذي دأب النظام على فعله، النسق الذي حدده رئيس النظام وسمّاه سوريا المفيدة، واعتبر فيه أن السوريين هم فقط أولئك الذين يحبونه.