تحولات في الجهاد العالمي

2020.11.01 | 23:14 دمشق

648660cd-e1b8-4694-8e5c-024731a16175.jpg
+A
حجم الخط
-A

المصادفة وحدها هي التي جعلت من أبو مصعب الزرقاوي النجم الجهادي الذي سيكونه. فالشاب الأردني ذو الرابعة والثلاثين، الخارج من السجن في بلاده مؤخراً، كان متوجهاً للقتل والقتال في بؤرة الشيشان الساخنة آنذاك عندما أوقفته السلطات الباكستانية في طريق عبوره وأعاقت سفره. وفرضت عليه، وعلى زميليه في الرحلة، مغادرة أراضيها فوراً. فلم يجد حلاً سوى التوجه إلى أفغانستان المجاورة التي كان قد عرفها منذ سنوات، كأحد المجاهدين العرب، دون أن تكون له ميزة خاصة.

لكن الوضع كان قد اختلف بين 1993، عندما غادر تلك البلاد، وبين 1999، عام عودته إليها بناء على هذه المصادفة. فمن جهةٍ كان أسامة بن لادن وشريكه أيمن الظواهري قد وضعا أسس تنظيم القاعدة الذي هدف إلى أن يكون عالمياً. ومن جهة ثانية كانت المرافعات التي ألقاها الزرقاوي أمام المحكمة العسكرية، وكلمات أبو محمد المقدسي، شيخه وأميره في قضية تنظيم «بيعة الإمام»، قد أطلقت اسمي الرجلين في الفضاء الجهادي المهتم. بما فيه الشيخان، وهو وصف بن لادن والظواهري في القاعدة، اللذين كانا يلاحظان ضعف تنظيمهما في بلاد الشام، وراقت لهما جرأة المقدسي والزرقاوي، والهدف الذي نشأت عليه «بيعة الإمام» من تهريب أسلحة للقيام بعمليات ضد إسرائيل. لكن دون أن يغفلا عن بعض الاختلافات بين المنهجين وعلامات التشدد الظاهرة على الأردنيَّيْن.

كانت المعادلة في حاجة إلى وسيط. وهو ما تطوع للقيام به سيف العدل، أحد أبرز قيادات القاعدة الذي سجن في مصر، يوم كان اسمه محمد صلاح الدين زيدان فقط، ضابطاً برتبة مقدم في القوات الخاصة، في قضية إحياء تنظيم «الجهاد». التقى سيف العدل بالزرقاوي في بيت الضيافة المخصص للقادمين بقندهار. وشعر القائد العسكري والأمني المخضرم بالارتياح لهذا الجهادي البسيط الذي أثار فيه سيلاً من الذكريات. قال سيف العدل: «وجدت أنني أقف أمام رجل يتطابق معي في كثير من الصفات الشخصية، رجل صلب البنية لا يتقن فن الكلام كثيراً، يعبر عما يجول في نفسه وفكره بكلام مقتضب، لا يتنازل عن أي شيء مقتنع فيه، لا يهادن ولا يساوم».

صبيحة اليوم التالي كان سيف العدل على موعد دوري مع الشيخين. وبعد انتهاء جدول الأعمال عرض عليهما موضوع الزرقاوي مرفقاً باقتراحه. فليس من العدل فقهياً ولا الصحيح حركياً، في رأيه، عدم التعاطي مع أي مجموعة تختلف مع القاعدة في جزئيات محدودة، خاصة أنه لم يكن للتنظيم وفكره وجود قوي في فلسطين والأردن وقتئذ، على خاصرة إسرائيل. ويمكن تأمين الدعم لأبو مصعب كي يبدأ عمله الخاص الموجه إلى تلك المنطقة دون بيعة، لتقوية التيار الجهادي هناك وإن لم يرتبط بالقاعدة بسبب الاختلافات. بعد ساعتين من النقاش وافق الشيخان وتعهدا بتأمين الدعم اللازم وفوّضا سيف العدل بإدارة الملف.

أعدّ الضابط المصري السابق، الذي تعرض الولايات المتحدة الأميركية مكافأة تصل إلى عشرة ملايين دولار لمن يقدم عنه معلومات، المشروعَ وعرضَه على الجهادي التائه. وكان يقوم على منح معسكر تدريب صغير مع مستلزماته للزرقاوي، يستقطب إليه مجاهدين من الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق وتركيا، بهدف تأهيلهم لتنفيذ الأهداف المشتركة في الوقت الحالي، وربما التطابق بينهم وبين القاعدة في مستقبل قريب. وافق الزرقاوي. وخضع، مع رفيقيه، لتدريب خاص لمدة 45 يوماً. بينما كان رجال سيف العدل يجهّزون معسكراً قديماً في هيرات، أقرب مدينة أفغانية إلى الحدود الإيرانية، بعيداً عن مناطق كثافة وجود القاعدة، ومحطة عبور سرية في مشهد بإيران، بعدما شددت سلطات باكستان على حركة المتطوعين وصار وصولهم عبر إيران أسهل.

غطّى سيف العدل المعسكر لدى طالبان، ورعى المشروع بزيارات شهرية، مراقباً بحبور تحسن نوعية الطعام المقدّم وغلبة الطابع السوري عليه دلالة على وصول عائلتين حلبيتين كانتا تقيمان في تركيا، وازدياد عدد السكان كل مرّة، من القادمين من الأردن وحوله أو المهاجرين السابقين إلى أوروبا، حتى شكّلوا مجتمعاً مصغراً مكوناً من أسر استقدمها المتطوعون وتبادلت الزيجات. بالإضافة إلى تحولات أهم في شخصية أبو مصعب الذي لم يعد يتهيب الكلام، ووضع، مع رفاقه، هيكلية تنظيمية وبدؤوا بعلاقاتهم العامة.

من جهتها، كانت القاعدة تعدّ لعمليتها الكبرى في 11 أيلول 2001. وقد جرى شرح أهدافها وسياقها وردة الفعل المتوقعة عليها للزرقاوي إثر تنفيذها. وضمن خطة «الانسياح في الأرض» لفتح معارك

غزا الأميركيون العراق في ربيع 2003، وانهار نظام صدام بسرعة مخلفاً الكثير من أيتامه، واندلعت مقاومات متعددة برز فيها نجم الزرقاوي وتنظيمه «التوحيد والجهاد»

جديدة خرج كثير من كوادر القاعدة وعائلاتهم إلى إيران، التي ستحتجز سيف العدل وسواه لسنوات، في حين فضّل الزرقاوي انسياحاً أبعد، باتجاه المناطق التي كانت تسيطر عليها حركة «أنصار الإسلام» الكردية الشقيقة في شمال العراق، ثم جنوباً باتجاه المدن السنّية، حيث يستطيع وتنظيمه التخفي ضمن المجتمع بسهولة، بانتظار الغزو الأميركي المرتقب والمساهمة في مقاومته التي قد تكون فرصة تاريخية للانتقام والانتشار والتجذر.

لم يكن لخطة أن تنجح أكثر من هذه في الحقيقة! فقد غزا الأميركيون العراق في ربيع 2003، وانهار نظام صدام بسرعة مخلفاً الكثير من أيتامه، واندلعت مقاومات متعددة برز فيها نجم الزرقاوي وتنظيمه «التوحيد والجهاد» الذي كان يُنظر إليه كفرع محلي للقاعدة رغم أن ذلك لم يكن حقيقياً، حتى أرسل أبو مصعب بيعته الرسمية للتنظيم في تشرين الأول 2004، بعد أن فرض شروطه المتشددة، ولا سيما باستهداف الشيعة. كان التنظيم الأب يشيخ بينما استقطب ولده العراقي «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» الجماهيرية الجهادية والشعبية والمتطوعين واستطاع الوصول إلى الموارد أو انتزاعها. وفي ظروف ضعف التواصل كانت الاستقلالية الأصلية للزرقاوي تزيد في حين تعجز قيادة القاعدة عن الوصول إلى تصور كامل عن الوضع على الأرض هناك وتفشل في السيطرة عليه، كما تدل مراسلات عديدة منشورة في وثائق «آبوت آباد» المأخوذة من حاسب بن لادن.

قبل مقتله بقليل كان الزرقاوي قد شرع بالوصول إلى الهدف الذي ترمي إليه الحركات الإسلامية، وهو إقامة «الدولة الإسلامية». فقد أعلن عن تشكيل «مجلس شورى المجاهدين في العراق»، الذي ضم فرع القاعدة وفصائل جهادية أصغر. وبعد مقتله دفع خليفته باتجاه الإعلان عن قيام «دولة العراق الإسلامية» بقيادة أبو عمر البغدادي في تشرين الأول 2006، منهياً وجود القاعدة في العراق بعد سنتين على بيعتها، بما أن الفصائل والتنظيمات المؤسِّسة قد توافقت على حل نفسها والذوبان في «الدولة».

لم يَعِ تنظيم القاعدة هذا التحول. فعندما تدخّل أميره الثاني، أيمن الظواهري، في الخلاف بين «دولة العراق الإسلامية»، وقد أصبحت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» إثر إعلان تمددها إلى هناك، وبين «جبهة النصرة» التي بايعته على حين غرة؛ وجّه حكمه إلى أميريهما، أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني، وكأنهما من أتباعه على حد سواء، راسماً الحدود والصلاحيات. لتفاجئه داعش بأنها ليست «تنظيماً» كما يظن، بل «دولة» لا تقل شرعيتها عن «إمارة طالبان الإسلامية» المنحسرة، التي يدين لها تنظيم القاعدة كله بالبيعة!

الأمر الثاني الذي لم تعِه القاعدة هو انتقال المثال الجهادي من بن لادن إلى الزرقاوي، بما يعنيه ذلك من تحولات. بدءاً من الجسد العليل والنحيل للأول مقارنة بالبنية الرياضية للثاني. انتساب بن لادن إلى نخبة مالية واجتماعية والأصل البائس للزرقاوي. التحصيل الجامعي في الاقتصاد للوريث السعودي الثري وتوقف مؤسس الموجة الثانية عند الشهادة الإعدادية. إنشاء بن لادن لتنظيم جهادي نخبوي يعتمد أساليب حرب العصابات وتوجه الزرقاوي إلى الانتشار الشعبي وبيعات العشائر. بطء الأول واندفاع الثاني. الهدوء الذي اتسم به بن لادن منذ نشأته والمشكلات التي تورط فيها الشاب الأردني في شبابه. ترف الأول في عملياته الباذخة التي أقلّتْ أبرزَها طائراتٌ، واشتهار الثاني بلقب «الذبّاح» بسبب استخدامه السكين لقتل الأفراد، وتفجير الجموع بسيارات مفخخة مسروقة. الأصل الإخواني، القابل للاستعادة جزئياً، لبن لادن وانطلاق الزرقاوي من أرضية جهادية منذ اعتنق الآيديولوجية الإسلامية. انشغال رمز الجهاد العالمي بالعدوّ البعيد وميل المتزعم الإقليمي للحرب الطائفية وتحويل القريب إلى عدوّ.

مع تزايد الأنباء عن أمراض شيخوخة الظواهري وتصاعد الانتقادات لقيادته يبدو سيف العدل أبرز المرشحين للخلافة، في ما يرى البعض أنه الأمل الأخير لاستعادة دور القاعدة على يد أحد القلائل المتبقين من حرسها القديم. لا يُعرَف موقف سيف العدل من الطفرة التي صنعها والتي انقلبت على القاعدة وقاتلتها انطلاقاً من سوريا وصولاً إلى أفغانستان، غير أن بقاءه في التنظيم الأم رغم الانشقاقات والاعتراضات، وما تردد عن وقوفه وراء إحياء فرعه السوري باسم «حراس الدين» بعد أن فكت جبهة النصرة ارتباطها به وصارت «فتح الشام»؛ مؤشرات تدل على أنه ربما ينظر اليوم إلى استثماره في الزرقاوي بندم كبير..