"تجربة ميلغرام" والنموذج السوريّ

2021.10.19 | 07:20 دمشق

milgram_main00120190222.jpg
+A
حجم الخط
-A

بداية عام 1961، استمع "ستانلي ميلغرام" عالم النفس بجامعة ييل في الولايات المتحدة، إلى إفادة مجرم الحرب النازي أدولف أيخمان أثناء محاكمته في إسرائيل. أيخمان، المتهم بالإشراف المباشر عن نقل مئات آلاف الضحايا إلى معسكرات الموت حيث سيلقون حتفهم هناك، رأى نفسه غير مذنب معتبراً أنه لا يتمتع بأي سلطة في التسلسل الهرمي النازي، وكل ما في الأمر أنه كان يتبع الأوامر فقط. "لم أكن قائداً مسؤولاً، وبالتالي لا أشعر بالذنب" قال أيخمان. إفادة المجرم النازي كانت لافتة بالنسبة لميلغرام، فولّدت لديه سؤالاً، هل يمكن للهولوكوست أن يتكرر في أي بلد آخر من أناس آخرين سوف يتسلحون بالذرائع ذاتِها التي قدّمها أيخمان وقبله الكثيرون خلال المحاكمات النازية؟ ابتكر ميلغرام دراسته النفسية لشرح سيكولوجية الإبادة الجماعية، والإجابة عن السؤال المعاصر وقتذاك: "هل يمكن أن يكون أيخمان وشركاؤه المليون في الهولوكوست يتبعون الأوامر فقط؟".

كانت تجربة ميلغرام تهدف لقياس رغبة المشاركين في الدراسة (رجال تتراوح أعمارهم بين 20 و 50 عاماً، من مجموعة متنوعة من المهن بمستويات متفاوتة من التعليم) في إطاعة شخصية السلطة الأعلى إن أمرتهم بأداء أعمال تتعارض مع ضميرهم الشخصي. كان على المشترك الذي سيأخذ دور المعلّم، أن يصعق بالكهرباء شخصاً آخر هو التلميذ (ممثل ومشترك مع ميلغرام في التجارب) موجود في غرفة أخرى، عندما يخطئ بالإجابة عن سؤال تعليمي، بحجة معرفة مدى تأثير العقاب على التعلم! أخبرهم ميلغرام أنهم يشاركون في "دراسة علمية للذاكرة والتعلم"، لمعرفة تأثير العقوبة على قدرة الشخص على حفظ المعلومات. كانت درجات الصعق الكهربائي تتدرج من 15 إلى 450 فولتاً، تزداد وتتدرج مع الأسئلة. طبعاً لم يكن هناك صعق كهربائي حقيقي، وكل ردات فعل وصراخ الشخص المصعوق كانت تمثيلية ومسجلة مسبقاً، لكن المشارك لم يكن يعلم ذلك.

كانت النتائج صادمة، وتعاكس كل من استطلع ميلغرام رأيهم من العلماء والأطباء. ليصل ميلغرام بالنتيجة إلى أن الهولوكوست يمكن أن يتكرر في أميركا

قبل البدء بتجاربه، استطلع ميلغرام آراء أربعة عشر متخصصصاً في علم النفس، وأربعين طبيباً من كلية الطب، كما أجرى استطلاعاً غير رسمي لزملائه. جميع هؤلاء أكدوا أن أقل من واحد بالمئة من المشاركين بتجربة إيقاع الأذى، سيستمرون بها حتى نهايتها. لكن النتائج لم تأتِ بحسب توقعات هؤلاء. من أصل أربعين مشاركاً ستة وعشرون وصلوا إلى الصعقة الأخيرة التي يمكن أن تودي بالحياة، بعد إقناعهم من ميلغرام أنه هو وليس المشارك، المسؤول عن النتيجة حتى لو كانت الموت. لم يقم أي من المشاركين بالتمرد ومحاولة معرفة مصير الشخص المُعذَّب بعد صراخه وإخبار المشارك بأنه مصاب بمرض قلبي وأنه على وشك الموت. وجدت التجربة، بشكل غير متوقع، أن نسبة عالية جداً من الأشخاص سيلتزمون تماماً بالتعليمات، وإن كان ذلك على مضض في معظم الحالات. كانت النتائج صادمة، وتعاكس كل من استطلع ميلغرام رأيهم من العلماء والأطباء. ليصل ميلغرام بالنتيجة إلى أن الهولوكوست يمكن أن يتكرر في أميركا، وفي أي مكان آخر في العالم، فألمانيا قبل النازية كانت بلداً متحضراً وعريقاً بفلاسفته وموسيقييه وشعرائه وعلمائه. سوف تتكرر التجربة في أكثر من مكان داخل الولايات المتحدة وخارجها، واللافت أن النتائج كانت متقاربة في كل مرَّة.

سيكتب ميلغرام بعدها "السلطة أقوى من الحتميات الأخلاقية (للمشاركين) ضد إيذاء الآخرين، ومع رنين آذان المشاركين بصراخ الضحايا، فازت السلطة في معظم الأحيان.. يمكن للأشخاص العاديين، الذين يؤدون وظائفهم ببساطة، وبدون أي عداء خاص من جانبهم، أن يصبحوا شركاء في عملية مدمرة، حتى حين تصبح الآثار المدمرة لعملهم واضحة تماماً. قليل من الناس من يمتلكون القدرة اللازمة لمقاومة أوامر السلطة". سيعترض العديد من العلماء ونقّاد التجربة على استنتاجات ميلغرام، وربطها بجريمة كبرى كالإبادة الجماعية، فبينما استمرت التجربة لمدة ساعة، مع عدم وجود الوقت الكافي للمشارك للتفكير في الآثار المترتبة على سلوكه. فإن المحرقة استمرّت لسنوات مع متسع من الوقت لإجراء التقييم الأخلاقي لجميع الأفراد المشاركين. اعتبر بعضهم أن نهج ميلغرام لا يقدم تفسيراً مناسباً تماماً للهولوكوست. في حين أنه قد يكون مناسباً لتفسير الطاعة التدميرية للبيروقراطيين، الذين قاموا بشحن اليهود إلى معسكر "أوشفيتز" بنفس الدرجة من الروتينية والحيادية كما لو أنهم يشحنون البطاطا من مكان لآخر.

ما الذي يدعوني اليوم لاستعادة التذكير بتجربة جرت قبل ستة عقود؟ إنها الحالة السورية. لم تكن سوريا من بين البلدان التي كرر فيها ميلغرام تجربته، لكن حافظ الأسد، ومن بعده ابنه قد عمّما هذه التجربة، ليس في مختبرٍ كما فعل ميلغرام، وإنما في عموم البلد، وشاركهما بها مجرمون متطرفون آخرون من الضفة الأخرى. ليس لدينا نسب مئوية عن نتائج التجربة في سوريا، ولكن كل المؤشرات تدلّ على أن نتائجنا كانت متفوقة، مع استنفار كل نزعة عدوانية لدى المنخرطين. فلم يقتصر الأمر على تنفيذ أوامر المسؤول الأعلى، وإنما تمادى النزوع الإجرامي ليتحول إلى ممارسة مفعمة بالإخلاص للجريمة، بقناعة وجدّية بدَت راسخة لدى المشاركين. وإلا، فما معنى أن ينفذ القاضي أوامر أجهزة الأمن، باعتبارها سلطة أعلى من القضاء في سوريا، ويحكم بما سيودي بحياة الآلاف من الأشخاص، أو يودي بهم إلى سجن مديد على الأقل، مع كامل معرفته بأنهم لا يستحقون؟ وما الذي يدعو شخصاً لمتابعة جرائم التعذيب والقتل تحت التعذيب حتى اليوم في سجون الأسد؟ أو طياراً ليرمي برميلاً متفجراً أعمى على المدنيين؟

أعلم طبعاً أن الأمر في أحيان كثيرة ليس مجرد تنفيذ لأوامر السلطة الأعلى، إنما هو فعل معزّز بمشاعر الكراهية التي استنفرتها واستفزتها السلطة لدى هؤلاء التنفيذيين. طبعاً لا أغفل أيضاً حالات المهددين بحياتهم وحياة عائلاتهم إن لم ينفذوا الأوامر، وجميعنا نذكر شهاداتٍ لمنشقين عام 2011، عن جنود قضوا برصاصة في الرأس لأنهم رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين السلميين. ولن نعدم في مرحلة (الصحوة) والتمايزات عام 2011 وجود من تابع ارتكاب الأذى المجرم حتى ما قبل انشقاقه بلحظات. كل ذلك كان مترافقاً مع سلطة أعلى تحمل كل شرٍّ وتنقله للمستويات الأدنى. كل أولئك لو سئلوا اليوم لأجابوا بما يشبه إجابة أيخمان أنه كان ينفذ الأوامر. وعلى الطرف الآخر، سيجيب داعشي أو أي منتمٍ لشقيقات داعش ساهم بالذبح أمام الكاميرات، بأنه كان مبايعاً ومجبراً شرعاً على الولاء والطاعة والتنفيذ. أيخمان أيضاً أفاد أنه كان ملزماً بقسم الولاء لهتلر، وهي نفس وسائل الدفاع التي استخدمها العديد من المتهمين النازيين في محاكمات نورمبرغ 1945-1946.

لو اختبرتهم السلطة الأعلى في مراكز التعذيب والقتل، فعلى الأرجح أنهم سيقبلون وينفذون كل ما يطلب منهم، والجواب سيكون دائماً: كانت تلك أوامر السلطات الأعلى

في العقد الأخير يتغير التنفيذيون في سوريا كل فترة، بمن فيهم الوزراء الذين يتحملون كثيراً من الاتهامات، وحتى الشتائم من الموالين لنظام الأسد، رغم معرفة الجميع بأنهم بلا حول ولا قوة. وهم مجرد تنفيذيين يتلقون الأوامر. لكنهم في واقع الأمر لا يختلفون في شيء عن أيخمان، فقد ارتضوا أن يكونوا في مواقعهم، ولو اختبرتهم السلطة الأعلى في مراكز التعذيب والقتل، فعلى الأرجح أنهم سيقبلون وينفذون كل ما يطلب منهم، والجواب سيكون دائماً: كانت تلك أوامر السلطات الأعلى.

في عام 1962، بعد أن رُفِض التماس العفو الذي قدّمه، وفي الساعة الأولى من يوم الأول من حزيران شُنق أيخمان، الذي كان قد اختُطِف من الأرجنتين عام 1960. في غضون ساعات تم حرق جثته، ونثر رماده في البحر الأبيض المتوسط، في حين كانت إسرائيل، الدولة الناشئة تتابع جريمة تهجير الشعب الفلسطيني من بلده​. لم يخترع ميلغرام بتجربته أي جديد. هو فقط رفع الغطاء وأظهر من تحته شيئاً من البشاعة التي يمكن للإنسان أن ينغمس فيها في ألمانيا أو فلسطين أو في سوريا أو في أي مكان من العالم. "والظلم من شِيَمِ النفوس فإن تجد / ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يظلِم" تلك الخلاصة وصل إليها الشاعر المتنبي قبل قرون من ميلغرام، حتى دون أن يجري أية تجربة في المختبرات الجامعية.