تباشير ولادة شاعر بعثي

2020.06.19 | 00:09 دمشق

maxresdefault.jpg
+A
حجم الخط
-A

أحدثكم في هذه الحكاية عن رجل اسمه "علوان عين" انتسب إلى منظمة الشبيبة في سن مبكر من حياته، ثم دخل في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي، واكتسب العضوية العاملة. يعيش علوان في بلدة صغيرة بعيدة عن العاصمة، متزوج، ولم يرزق بأولاد، زوجته اسمها "سمارة سين".

تتضايق سمارة من بعض تصرفات علوان، وتنشأ بينهما، في معظم الأحايين، خلافات حادة.. وهو يرد على انتقاداتها مدافعاً عن نفسه بقوة، ولكنه، عندما يشعر بأنها ستستمر بالتصعيد، يتوقف عن الأخذ والرد، ويتذرع بأي شيء ليخرج من المنزل بقصد إنهاء الخلاف، أو تجميده.

على الرغم من أن "علوان" شاب فقير، وابن عائلة كادحة، فإنه ذكي، وطَموح، ويسعى لأن يكون أحسن من أقرانه كلهم. ولكن أية طموحات يمكن أن تتحقق لشاب في قرية صغيرة، وبعيدة، ومهملة؟ وأية هوايات يمكنه أن يمارس في هذا المحيط الضيق؟

عندما كان في الصف الثامن حاول أن يتعلم العزف على العود، ولكنه لم يتابع، لأنه لم يعثر في القرية على رجل واحد ملم بالموسيقا يمكن أن يعلمه أصول العزف، أو يُعطيه رأيه بالمعزوفات البسيطة التي يتعلمها بجهوده الخاصة. وخلال شهرين فقط ضجر من العود، وضعه في بيته البلاستيكي الأسود، وصعد به إلى السقيفة، وركنه بين أكياس الملح والسكر والفريكة، وقلائد الخضار المجففة، ومرطبانات المخلل والجبنة والدبيركة.

في وقت لاحق مارس علوان هواية الرسم. صار يأتي بقطع مستطيلة من قماش أبيض سميك، يشدها على إطار مستطيل، ويطليها بدهان الأساس الأبيض، ويصنع لها أطاراً خارجياً بدائياً من رقائق خشبية يسويها على "الرابوب" في دكان نجار الحارة. ثم يباشر الرسم بحماس، ولكن، ما إن يصل إلى منتصف اللوحة أو ثلثيها حتى يفتر حماسه، وتحرن الريشة في يده، فيهملها، أو يطمسها بالأساس الأبيض، ويجرب غيرها.. أراد، في البداية، أن يتعلم رسم صورة حافظ الأسد ويبيعها لمنظمة الشبيبة أو الطلائع أو اتحاد العمال، مؤملاً أن يشتهر في المنطقة على أنه أفضل من رسم صورة للرئيس، ولكن النسب والمقاييس كانت تخونه، ويحصل، في النتيجة، على صورة مرعبة، فيسارع إلى طمسها وإخفاء معالمها، خشية أن يراها مخبر مبتدئ فينفضه تقريراً أكبر من الشرشف السبعاوي يزعم فيه أن علوان يشوه صورة الرئيس عن عمد! وهكذا حتى أيقن أن مستقبل الفن التشكيلي في هذه القرية لن يتعدى رسم سروتين ونهر وسرب طيور على أبواب الحجاج.. وصار يستخدم إطارات اللوحات وقماش البيز المطلي بالدهان الملون وقوداً لمدفأة الحطب.

أراد علوان، بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، أن يختصر طريق الدراسة على نفسه، فسجل في "الصف الخاص"، وتخرج بعد سنة واحدة، وعُين معلماً في مدرسة القرية

أراد علوان، بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، أن يختصر طريق الدراسة على نفسه، فسجل في "الصف الخاص"، وتخرج بعد سنة واحدة، وعُين معلماً في مدرسة القرية. خلال الدراسة اشترى ناياً من القصب، وصار يعزف عليه لَحْنين وحيدين هما "بالفلا جمالي ساري" لرفيق شكري، و"شدوا لي الهودج يا الله" لكروان، وأما لحن "زادك الله عز وقوة قائدنا" فلم يفلح في تعلمه، واعترف لنفسه بأنه لحن صعب.. وذات مرة، جلس على الأريكة الخشبية التي وضعتها والدتُه في غرفة الجلوس، فسمع صوت طقطقة، وحينما وقف تبين له أنه هرس الناي بجسده الثقيل، فقال يخاطبه: انكسرت؟ بحفض..! وأقلع عن هواية العزف على الناي إلى الأبد.

بعد سنتين من التخرج جمع قليلاً من المال يكفي للزواج. خطب سمارة، وتزوجها، وسكن معها في منزل الأسرة الذي صار ملكه بعد وفاة والدته.

أخذت سمارة فكرة عن طموحات علوان منذ ليلة الدخلة. شاهدت على طاولة صغيرة مركونة في زاوية من غرفة النوم كتباً وملخصات تعود للسنة الأولى أدب عربي، سألته عنها، فأعلمها أنه، في السنة الفائتة، أعاد البكالوريا، وسجل في كلية الأدب العربي (دراسة نظرية)، لأنه، منذ أيام الدراسة الابتدائية، كان يهوى اللغة العربية إلى درجة العشق.

انتقل علوان إلى السنة الثانية، ثم إلى الثالثة بسهولة، وبعلامات جيدة، وخلال الأشهر الأولى من السنة الثالثة التمعت في مخيلته فكرة عظيمة، وهي أن يكون شاعراً. كان على ثقة بأن مئات الشعراء الموجودين على الساحة الآن ليسوا أحسن منه!

يعرف علوان أن هذه الهواية تحتاج إلى شغل وتعب، فاندفع يجتهد لمعرفة كل شيء عن أوزان الشعر، وبحوره، وقوافيه، وعن المحسنات البديعية التي يجب رشها على القصيدة لتكون أجمل وأزهى، والعيوب الأساسية التي يجدر بالمرء أن يتجنبها.. ولكي يتعمق أكثر؛ قرر أن يتخطى النماذج الشعرية المقررة في المناهج الجامعية، فصار يذهب إلى دمشق، ومن "كراجات الست" يستقل تكسي سكارسا إلى حي "الحلبوني" ويقوم بجولة على المكتبات ويشتري دواوين الشعراء العرب الكبار، كأبي تمام، والمتنبي، والبحتري، وأبي نواس، وابن الرومي، وحسان بن ثابت، وأبي العتاهية، إضافة إلى كتاب شرح المعلقات السبع للزوزني، وكتاب أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، وكتب الأدب والبلاغة، وراح يقرأ (ويحفظ) العشرات بل المئات من أبيات الشعر غيباً.

علاقة علوان مع المرحومة والدته لم تكن على ما يرام، فقد كانت تنصحه بالمثابرة على الصيام والصلاة والابتعاد عن معاشرة البعثيين، وهو يتهرب من نصائحها، وأحياناً ينهرها ويقول لها (إنتي ما إلك علاقة بحياتي، التهي بحالك).. وقبل أن تفارق الحياة طردته من البيت، وقالت له:

- الله يغضب عليك يا علوان، يا بعثي الكلب، ولا يوفقك، ويجعل الرزق خَيَّال ويجعلك كلب مريض راكض وراه.

ومع ذلك، في يوم من أيام شهر آذار، وبينما كان علوان يغط في النوم، إذ شعر بنشاط مفاجئ، فهب واقفاً، أشعل النور، وجلس إلى طاولته، وكتب قصيدة من أحد عشر بيتاً، بمناسبة عيد الأم. راجع القصيدة ودققها عشرات المرات، ثم حملها وذهب إلى الأستاذ عزام، مدرس اللغة العربية في إعدادية القرية، قرأها أمامه فأعجب بها أيما إعجاب، وأثنى عليه، وعلى أخلاقه النبيلة المتمثلة ببر والدته التي وضع رب العباد الجنة تحت قدميها.

أعطاه ثناء الأستاذ عزام دفعاً معنويا كبيراً، فانطلق ينظم الشعر بغزارة، وما عاد يمر عليه يوم لا يكتب فيه قصيدة، أو بضعة أبيات من قصيدة يكملها في اليوم التالي، ولم يعد بحاجة لأن يعرضها على الأستاذ عزام، بل صار يقرؤها أمام أصدقائه ومعارفه في القرية، فيثنون عليه ويمدحونه ويبشرونه بمستقبل كبير.

وذات يوم، في أوائل نيسان، وبينما كان علوان يضع اللمسات الأخيرة على قصيدة جديدة يتحدث فيها عن تضحيات المعلم واحتراقه أمام طلابه مثل شمعة، إذ قُرع الباب. فتحه فرأى أمامه الرفيق "أبو كفاح" أمين شعبة الحزب في الناحية، سلم عليه وقال له:

- رفيق علوان، إلك ولا للذيب؟

رد علوان: يخسا الذيب.

قال أبو كفاح: أنا بوجهك يا معود. عندي مهرجان خطابي في ذكرى تأسيس الحزب، وإنته رفيقنا وحبيب قلبنا، ومن جوات السَقَّاطة، وما شاء الله عليك، شاعر و(بتـ.. الطحطح).. بقى بدي من تحت إيديك كم قصيدة من اللي بيحبهم قلبك!

فرفح قلب عمران من شدة الفرح. وقال لأبي كفاح: أنا؟ أي طبعاً، أكيد.. ولو.. أبشر.

وبذلك تكون حياة علوان قد انعطفت، ودخلت في مرحلة جديدة، وهي مرحلة مديح القائد حافظ الأسد.