تأملات في الانتفاضة الإيرانية

2019.11.29 | 18:53 دمشق

580_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

شكلت الاحتجاجات الإيرانية التي اندلعت في جميع أنحاء البلاد في الآونة الماضية حدثاً سياسياً هائلاً ومتعدد الأطراف غيَّر ملامح الساحة العامة في إيران.
المنطقة الجغرافية للاحتجاجات شملت ما لا يقل عن مائة مدينة إيرانية، حيث كان لها انتشار واسع النطاق في العاصمة طهران، في حين أشارت الإحصائيات المتوفرة لسقوط أكثر من ٢٠٠ قتيل ومئات الجرحى، ووجود أكثر من ٤ آلاف معتقل في الاضطرابات الأخيرة.
هذه الحركات الاحتجاجية التي اندلعت وما تزال مشتعلة منذ أكثر من أسبوع ونيف تشبه إلى حد كبير انتفاضة اجتماعية واسعة النطاق حدثت رداً على قرار الحكومة الإيرانية المفاجئ برفع سعر مادة البنزين.
وفي الواقع، إنها نوع من انفجار الغضب الاجتماعي الذي تطور بسرعة في سياق المطالب الاقتصادية والمشكلات المعيشة، كاشفاً عن مطالب سياسية، وكأن قضية رفع سعر البنزين تحولت لنافذة لإظهار مقدار الغضب والسخط الشعبي المتراكم والمخفي.
على الرغم من أن هذه الاحتجاجات تندرج ضمن الإطار الاقتصادي السياسي، إلا أنها تتمتع بطابع سياسي أكثر من الاحتجاجات التي اندلعت في شهر يناير عام ٢٠١٨.
هذا الطابع لا يقتصر فقط على كون شعارات الاحتجاجات أكثر راديكالية، وأن هناك رفضاً شعبياً تاماً لهيكل السلطة في إيران، لكن السخط الشعبي على فقدان المشاركة السياسية، وتجاهل دور الشعب في القرارات الحكومية المهمة كان

يبدو أن صانعي القرار الرئيسيين في نظام طهران أدركوا أنه إذا استمرت المقاومة الاجتماعية على هذا النحو، فسيكون من الصعب احتواؤها لاحقاً

أيضًا عاملاً مهماً في ظهور ردة الفعل الشعبية الغاضبة.
الاستعداد التام للنظام الإيراني، ورفعه جاهزية قواته الأمنية، وتكثيف انتشارها في النقاط الحساسة في إيران بعد قرار رفع سعر البنزين لم يستطع أن يمتص الصدمة الناجمة عن هذا الكم الكبير من الغضب الشعبي الذي انتشر مثل النار في الهشيم في جميع أنحاء إيران.
وفي نهاية المطاف، يبدو أن صانعي القرار الرئيسيين في نظام طهران أدركوا أنه إذا استمرت المقاومة الاجتماعية على هذا النحو، فسيكون من الصعب احتواؤها لاحقاً، وذلك بالنظر إلى الأزمات الداخلية المزمنة، والتوتر الشديد في العلاقات الخارجية، والاحتجاجات المتزايدة ضد النظام الإيراني وتدخلاته في المنطقة.
ولهذا السبب، عمد النظام على الفور لاستخدام أدوات مثل العنف المفرط، وقطع الإنترنت عن كافة المحافظات الإيرانية في سابقة من نوعها في تاريخ الانتفاضات الإيرانية، سعياً منه لوأد هذه الاحتجاجات في مهدها، ومنع انتشار أخبارها خارج إيران.
أقل ما يمكن وصف انتفاضة شهر نوفمبر ٢٠١٩ هي أنها كانت أكثر شجاعة وجسارة من الانتفاضات السابقة التي اندلعت في عام ٢٠٠٩ ونهاية عام ٢٠١٧ و عام ٢٠١٨.
الحجم الهائل من المواقف المتناقضة للمسؤولين السياسيين والأمنيين والقضائيين والعسكريين في إيران يبين مدى قساوة واشتداد هذه الاحتجاجات، لدرجة أن قائد عمليات قوات الباسيج في همدان (سالار آب نوش) وصف هذه الاحتجاجات بأنها "حرب عالمية ضد النظام والثورة".
للمرة الأولى يستخدم خامنئي كلمة الحرب في التعامل مع الاحتجاجات الداخلية، حين تحدث عن أن النظام كان يخوض "حرباً أمنية" انتهت بانتصار النظام، كما يدعى.
في الحقيقة انتفاضة شهر نوفمبر ٢٠١٩ كانت تتويجاً لآلاف الحركات الاحتجاجية الأصغر والمستمرة على مدار العام ونصف العام الماضي.
هذه الحركات الاحتجاجية عقدت على يد مختلف شرائح المجتمع الإيراني، بما في ذلك، المعلمين والطلاب والعمال والممرضين وسائقي الشاحنات والمزارعين والتجار والعاطلين عن العمل وغيرهم.
وهذه هي الميزة الخاصة ذاتها التي اتسمت بها ثورة عام 1979، والتي أطاحت بنظام الشاه في نهاية المطاف.
رغم ذلك، لا يمكن الوصول حتى الآن لتحليل شامل وكامل للأحداث التي وقعت في أكثر من مائة مدينة إيرانية، لأن هذا الأمر يتطلب المزيد من الوقت والمزيد من المعلومات، لكن في ضوء الأدلة المتوفرة، من شبه المؤكد أن القاسم المشترك للاحتجاجات الشعبية كان:
السخط الشعبي من النظام العام في إيران، والقضاء على مؤسسة ولاية الفقيه، عزل المرشد الإيراني علي خامنئي من السلطة، الرفض الشعبي التام والكامل لكافة أجنحة النظام الحاكمة من أصوليين وإصلاحيين، معارضة نهج

لعبت المخاوف والقلق الشعبي بشأن الوضع الاقتصادي البائس وعدم وجود مستقبل واضح، خاصة في مجال التوظيف، دوراً مهماً أيضاً في اشتعال الحركات الاحتجاجية.

السياسة الإقليمية للنظام الإيراني في المنطقة، خاصة في سوريا، التركيز على الفصل بين الدين والدولة، رفض الحكم الثيوقراطي، المطالبة بالعدالة، والاحتجاج على التمييز الطبقي ومكافحة الفساد وسياسة النهب المتغلغل داخل النظام.
إلى جانب ذلك، لعبت المخاوف والقلق الشعبي بشأن الوضع الاقتصادي البائس وعدم وجود مستقبل واضح، خاصة في مجال التوظيف، دوراً مهماً أيضاً في اشتعال الحركات الاحتجاجية.
يمكن رؤية هذا الغضب والاستياء في سلوك العديد من المحتجين الإيرانيين الذين رفضوا دفع كلفة قرارات النظام العبثية من جيوبهم الخاصة وعلى حساب حياتهم ورفاهيتهم.
صحيح أن آفاق وتوقعات الاحتجاجات الإيرانية ومدى قدرتها على تحقيق تغيير سياسي دائم على المدى القصير أمر غير واضح، لكن حتى لو كانت الحكومة الإيرانية قادرة على إعادة الأمور لطبيعتها، إلا أن شدة العنف المستخدم ومقدار الدماء التي سفكت، وعدم القدرة على حل المشاكل الاقتصادية يمكن أن يمهد الطريق لإعادة تنشيط الاحتجاجات الواسعة بشكل أسرع وبفواصل زمنية أقل مقارنة بالماضي.
الانتفاضات الإيرانية المتتالية يمكن تشبيهها بأمواج البحر الغاضبة التي ما إن تهدأ وتتراجع، حتى تعود لتضرب من جديد بقوة أكبر.
وحتى لو خرج النظام الإيراني سليماً من هذه الموجة الضخمة، لا بد له أن يتوقع حدوث موجات أضخم وأعنف في قادم الأيام.