بيوتنا التي عاشت في رأس حاتم علي

2022.01.01 | 04:18 دمشق

3h3a0200_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

كيف يكون رجل بكل هذا الخجل حد الانطواء غاضباً من داخله ثم يستطيع أن ينفجر على الشاشة كمارد، وكيف يمكن لطفل نازح عاش في (الحجر الأسود) جنوب دمشق أن يعيد تشكيل النبوءة السورية على هيئة بشر يهربون دون دليل من بيوتهم كي يصبحوا بعد كارثة جديدة نازحين جدداً، وهاربين من ويل القريب هذه المرة وليس من سطوة العدو وخدعة العسكري البارز؟

بالتأكيد أن الرواية التي تم تناقلها عن نكسة حزيران عام 1967 عالقة في قلب وعقل حاتم علي كما كلنا نحن الذين ولدنا في دمشق وضواحيها من آباء أجبروا على ترك بيوتهم لتأسيس عوالم أخرى لا تشبههم، ولكنهم في لحظة يأس قالوا الحقيقة لأبنائهم كما لو أنها وصية رجوع ذات يوم لكل (السلمون) البشري كي يعود ثانية ولو على شكل قصة وقصيدة وصورة وربما مسلسل كالتغريبة الفلسطينية.

في جنوب دمشق عاش حاتم طفولة ككل أطفال النازحين بين الحارات الضيقة والبيوت المتراكمة فوق بعضها ككل أحياء جنوب العاصمة الفقير

التغريبة الفلسطينية أبكت كل نازح لأنه استذكر ما حصل معه أو ما حاق بأهله الذين ماتوا وهم يروون حكاية البلاد التي أخذت غدراً، والبيوت التي ما تزال مفاتيحها معلقة في صدور العجائز أو على أهم جدار في البيت، ودموع المسنين التي باغتها الرحيل دون رصاص.. فقط بيان عسكري مدسوس عن بلاد سقطت دون معركة.

في جنوب دمشق عاش حاتم طفولة ككل أطفال النازحين بين الحارات الضيقة والبيوت المتراكمة فوق بعضها ككل أحياء جنوب العاصمة الفقير، وهنا استفاق الطموح والصراخ المكبوت على هيئة صور متسارعة من عمق الذاكرة الجمعية، وكذلك صور البؤس الموزعة في الأحياء المختلطة من السوريين الذين جمعهم الفقر ومن ثم طردتهم الحرب والسلطة إلى أماكن أخرى وشتات أكبر.

في الفصول الأربعة دخل هذا الولد الصغير صاحب العيون الضيقة إلى بيته الذي يحب في عاصمة أحبها بالرغم من الحنين، ولكم أن تتصوروا معنى أن يعشق بدوي مدينة كدمشق، كما لو أنها خيمته الأبدية أو بيته الحجري المبني بحجر الصوان الأسود في (فيق أو كفر حارب) وهي مدن ساحرة في الجولان بنيت فيها أول معصرة زيتون كما روى لي ذات يوم كردي نازح (أبو عيدو ظاظا رحمه الله) امتلك والده تلك المعصرة.. لكم أن تتصوروا البيت الدمشقي والأسرة الدمشقية التي حاكها خيال حاتم في مسلسل ما زال السوريون يرون فيها عصراً جميلاً قد مضى.

هنا في الشام صرنا نعشق بردى عوضاً عن اليرموك والبانياسي، وبحيرة مسعدة التي كانت متنزهاً ومسبحاً لشباب باتوا عجائز في الشام يمضون إلى قبورهم حالمين

أفترض أني أعلم كيف بنى حاتم علي هجرتنا قبل سنوات من وقوعها فهي لا تحتاج إلا إلى عصر الذاكرة المحقونة بالوجع والسواد، وهو الذي يجيد حبك القصة أليس هو نموذج للمبدع المتكامل والذي جرّب الكتابة قبل أن يرسمها مشهداً في عمل تلفزيوني، وتلك الجموع الهاربة تشبه بالضبط رواية النزوح، وتلك العائلة في الفصول الأربعة تقترب من حلم أي نازح ببيت هادئ في عاصمة الحكايات الكبيرة والتاريخ العظيم، وهنا نحن مارسنا - كجيل من النازحين بعد عقود من اليأس بعودة الجولان- طقوس الاحتفال بالوطن المؤقت والأبدي معاً، هنا في الشام صرنا نعشق بردى عوضاً عن اليرموك والبانياسي، وبحيرة مسعدة التي كانت متنزهاً ومسبحاً لشباب باتوا عجائز في الشام يمضون إلى قبورهم حالمين.

لكنها مباغتة المنافي التي تلاحق النازحين، والمسافات التي ابتعدت بحاتم علي ليكون لاجئاً في السويد ثم جثماناً عائداً إلى دمشق ليدفن في مقبرة باب الصغير مشفوعاً بأحلام السوريين في وطن يجمعهم فإذا به قبر طائر.

بيت أبي وجدي، وبيتي، وبيوت كل النازحين واللاجئين من سوريين وفلسطينيين عاشت في رأس حاتم علي ثم ولدت حكاية وصورة وبيوتاً على مدار الفصول.