بين عزمي بشارة وسيمور ليبسيت: تونس لماذا الآن؟

2021.08.09 | 06:57 دمشق

663097.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعد مراحل الانتقال الديمقراطي حتى تصبح الديمقراطية جزءاً من المكونات الوطنية للدولة، من أهم المراحل وأخطرها في النظم التي تنتقل من قمعية ديكتاتورية متغلغلة في أجهزة الدولة العميقة إلى ديمقراطية بفعل الثورات، وتلعب عدة عوامل أدواراً مهمة في سبيل تحول النظام من ديكتاتوري قمعي إلى ديمقراطي.

واجهت الدول العربية التي قامت فيها الثورات مجموعة من التحديات والمخاطر في مرحلة التحول الديمقراطي، ولم يصمد أمام تلك التحديات من تلك الدول سوى تونس حتى إعلان الرئيس التونسي في ٢٦ من تموز /يوليو ٢٠٢١ مجموعة من الإجراءات والقرارات التي مثلت حالة من الانقلاب الدستوري، وتجميع السلطات كلها بين يديه بعد تعطيل البرلمان والسيطرة على القضاء.

من أجل فهم الأسباب التي تقف وراء عملية تسهيل الانقلاب الدستوري في النموذج الديمقراطي العربي الوحيد في تونس، لا بد من الوقوف على مجموعة العوامل التي تسهم في عمليات الانتقال الديمقراطي من أجل فهم مواطن الخلل التي أدت إلى الانحراف عن المسار الديمقراطي:

في فترة حكم قيس السعيد عاشت تونس أزمة في الحياة الحزبية، وبرزت أكثر حالة التشظي في الأحزاب التونسية، وفقد الشعب التونسي جزءاً كبيراً من ثقته في تلك الأحزاب

أولاً- ثقافة النخب السياسية: عد سيمور مارتن ليبسيت الثقافة السياسية للشعوب في نظريته حول التحديث الديمقراطي، من أهم  الأسباب والعوامل التي تقف وراء إنجاح أو فشل عمليات الانتقال الديمقراطي، لكن عزمي بشارة المفكر العربي عد أن الثقافة السياسية للنخب السياسية هي التي تتحكم في إنجاح عمليات الانتقال الديمقراطي، وأن الثقافة السياسية للنخب هي التي تؤثر في الثقافة السياسية للشعوب، ورأى بأن النخب السياسية في تونس اعتمدت على التسوية والتقريب مع الخصوم في الدورات الانتخابية الأولى والثانية، وهذا ما ميزها عن التجربة المصرية حيث مالت الحركة الإسلامية التونسية للتنازل عن الحكم خوفاً من تكرار تجربة الإخوان المسلمين في مصر، وأبدت مرونة في ذلك، وتوصلت لتوافقات مع التيارات المختلفة.

لكن في فترة حكم قيس السعيد عاشت تونس أزمة في الحياة الحزبية، وبرزت أكثر حالة التشظي في الأحزاب التونسية، وفقد الشعب التونسي جزءاً كبيراً من ثقته في تلك الأحزاب ونزع الشعب التونسي لعدم المشاركة في الحياة السياسية، تترجم ذلك عبر عمليات عزوفه عن التصويت في الانتخابات في الدورات الانتخابية الثانية والثالثة، وهذا السلوك السياسي شائع لدى الجماهير التي أصبحت الديمقراطية جزءاً من مكونات الدولة الوطنية فيها، لا لجماهير الديمقراطيات حديثة العهد كتونس، حيث من المفترض في الديمقراطيات حديثة العهد أن لا تسود حالة من التعب السياسي بين الجماهير وأن تكون الجماهير ذات طابع حماسي أكثر للمشاركة في العملية السياسية كي تضمن تثبيت دعائم الحكم الديمقراطي، إلا أن هذا ما لم يتحقق في النموذج التونسي بسبب خيبة الجماهير من النخب السياسية، وبسبب الثقافة السياسية للجماهير والنخب على حد سواء.

تميزت الثقافة السياسية للنخب السياسية في تونس في مرحلة قيس السعيد بخاصة العلمانية الراديكالية المتطرفة منها بأنها أصبحت عامل إعاقة وليس عامل توفيق في الحياة السياسية، ووصلت تلك الإعاقة إلى مخاطبتهم الجيش بالتدخل وكانوا على استعداد لتحمل نتائج انقلاب عسكري على مضيهم في عملية توفيق بين الأحزاب.

أسهمت تلك الثقافة السياسية للنخبة الراديكالية العلمانية بتأزيم المشهد، واستغلال قيس السعيد لحالة التشظي الحزبي، وسوء الأداء الحزبي للأحزاب التونسية في مجمل الحياة السياسية كمدخل لعملية الانقلاب الدستوري، وتمرير ذلك الانقلاب في أجواء ترحيب من الجماهير التي فقدت ثقتها في أداء الأحزاب التونسية، فكما يرى سيمور مارتن ليبسيت بأهمية الثقافة السياسية للشعب في عملية التحول الديمقراطي وتثبيت دعائم الحكم الديمقراطي يلاحظ أن هذا العامل لم يتوفر في الحدث الأخير حيث عكس الترحيب الشعبي والردود الشعبوية المتزايدة على عملية الانقلاب حالة تردي في الثقافة السياسية ضمن شرائح واسعة لدى الشعب التونسي، الذي لم يدرك حجم خطورة الانقلاب الدستوري على نسف مسار الديمقراطية التونسية الناشئة، هذا إلى جانب تردي الثقافة السياسية للأحزاب التونسية، وجنوح معظمها لعدم الاستعداد للمضي ضمن خطوات توافقية فيما بينها تساعدها للضغط في تعطيل الإجراءات الانقلابية الدستورية من قبل قيس السعيد، مما أبطأ في عملية الرد على الإجراءات الانقلابية التي ما زالت الفرصة أمام الأحزاب التونسية والشعب التونسي متاحة من أجل تعطيلها.

 

ثانياً- الجيش: حسب الباحثين فإن الجيش التونسي لعب أدواراً محايدة لمدة عقود طويلة في حالات النزاعات السياسية الداخلية التونسية، وكان أحد أسباب نجاح عملية الانتقال الديمقراطي في تونس وفشلها في نظيراتها العربية كمصر، هو أن الجيش التونسي لم يكن له مطامع في السلطة مثل الجيش المصري مثلاً، فقد كان الجيش التونسي عاملاً أساسياً في إنجاح الثورة التونسية بسبب عصيانه أوامر قمعها، ثم حياده التام في مرحلة التحول الديمقراطي، حتى بدا واضحا خلال الأيام الماضية أن قيس السعيد نجح في استمالة قيادات الشرطة والجيش التونسي لصالح إجراءات الانقلاب الدستوري، حين ظهرت قوات من الجيش التونسي أمام البرلمان التونسي من أجل منع البرلمانيين التونسيين من عقد جلساتهم بناءً على مرسوم قيس السعيد الانقلابي، وهذا تحول في دور الجيش التونسي وعامل مهم في طمأنة الرئيس أنه لن تكون خطوات معادية لإجراءاته من قبل الجيش.

ثالثاً- العامل الخارجي: تتمثل أهمية العامل الخارجي في حال كانت الدولة في مرحلة الانتقال الديمقراطي مهمة جيو استراتيجياً، أم لا، وحسب موقع تونس فإنها بمقاييس أهمية الدول العربية جيو استراتيجياً بالنسبة للدول العظمى فإنها تعد غير مهمة ونشوء ديمقراطية فيها لا يهدد تلك الدول، فلا وجود للنفط في تونس، ولا حدود لها أيضاً مع إسرائيل، لذلك لم تأبه الدول العظمى لديمقراطية تونس الناشئة خلافاً لما حصل في مصر وسوريا.

إلا أن الدراسات الديمقراطية الكونية التي تعالج عمليات الانتقال الديمقراطي، والتي رجحت سيناريو نجاح عمليات التحول الديمقراطي في تونس في البدايات، لم تلتفت لأن الدول العظمى ليست اللاعب الخارجي الوحيد في اعتراض المسار الديمقراطي بالنسبة لتونس، فبعد عقد من عمليات الانتقال الديمقراطي والدورات الانتخابية التي عاشتها تونس، في ظل مشهد عربي إقليمي ديكتاتوري، بدأت تؤرق أكثر دول الثورات المضادة والأنظمة القمعية الديكتاتورية التي عرتها تلك الإجراءات الديمقراطية، حيث اتجهت أنظار الشعوب العربية للتجربة التونسية في العملية الديمقراطية، وبدا المشهد حيث لا يمكن التنبؤ من خلال الانتخابات بالنتائج الرئاسية في جو تنافسي ديمقراطي مشهدا صادما، في محيط عربي يحصل فيه الرؤساء على نسب تتجاوز ال 90 في المئة في كل دورة انتخابية، وهذا ما جعل دول الثورات المضادة تغتنم فرصة وجود شخصية مثل قيس السعيد، الذي لم تفلح المظاهر التقشفية الأولى له في الحكم من إخفاء نرجسيته ونزعته الاستبدادية وعدم إيمانه بالديمقراطية، خاصة وأنه صرح في أكثر من لقاء أنه لم يمنح صوته الانتخابي لأي من المرشحين في الدورات الانتخابية التي سبقت الدورة الأخيرة التي أفرزته رئيساً، وظهر الرئيس التونسي بعدها بمظاهر مختلفة أوضحت حجم التحول على الصورة التي قدمها للجماهير التي انتخبته، وفي ظل هذا المحيط العربي الذي يقتنص الفرص من أجل عدم تمكين الإسلاميين خصوصاً في أي نظام ديمقراطي تبدت الظروف كاملة أمام تدخل دول الثورات المضادة لمساعدة قيس السعيد على إقصاء خصومه السياسيين بانقلاب دستوري.

لم تتردد قوى الثورات المضادة في استغلال حالة الاستقطاب الشديد الطارئ بين القوى العلمانية الراديكالية التونسية والقوى الإسلامية، كذلك استخدامها لبقايا النظام الاستبدادي البائد من وسطاء لها في أجهزة الدولة العميقة المعادية للديمقراطية، التي لم تفلح ثلاث دورات انتخابية في القضاء عليها، كل هذا حصل ضمن توظيف خارجي لحالة التردي في الاقتصاد التونسي، ومشكلات الريف التونسي وتراجع عمليات التنمية الاقتصادية في الجنوب التونسي، كذلك عمليات الفساد الواسعة والمخاطر التي ترتبت على انتشار الوباء والخيبة الشعبية الواسعة من الأداء الحكومي، كل هذه العوامل صنعت بيئة خصبة ومغرية لقوى الثورات المضادة للانتعاش من جديد وتوجيه ضربتها للنموذج الديمقراطي التونسي، الذي أصبح يشكل خطراً على محيطه العربي الديكتاتوري، لأنه لافت وجاذب لأنظار الأمة العربية، وخوف قوى الثورات المضادة من أن تصبح ديمقراطية تونس جزءاً من هوية تونس الوطنية، وهذا بحد ذاته يؤزم تلك الأنظمة الديكتاتورية في حال ثبتت الحركة الإسلامية التونسية دوراً بارزاً لها في حكم نظام عربي، فهذا يحرج تلك الأنظمة التي تصور الإسلاميين عموماً على أنهم عدو التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مجتمعاتها.

وهنا أضيف على أهمية العامل الجيو استراتيجي بالنسبة لتونس أنها ضمن محيط دولة الاحتلال الإسرائيلي، وليس من الأهمية أن تشترك معها بحدود حتى تتنبه دول الثورات المضادة لخطورة قيام نظام ديمقراطي فيها، بخاصة تلك التي وقعت مع دولة الاحتلال الإسرائيلي اتفاقيات سلام وتحالف حديثة، فبالنسبة لدول الثورات المضادة وجود ديمقراطية عربية ترفض التطبيع مع دولة الاحتلال، ويتم انتخاب رئيسها وحصوله على مقبولية شعبية على خلفية رفضه للتطبيع مع دولة الاحتلال أمر يعريها أمام شعوبها، التي في معظمها ترفض التطبيع، في الوقت الذي راحت فيها الأنظمة الحاكمة نحو خيار التطبيع والتحالف مع إسرائيل، وبروز عامل التطبيع مؤخراً ومقدار أهميته لدول الثورات المضادة المتحالفة مع إسرائيل، أدى إلى انتهازها فرصة الأزمات الداخلية التونسية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من أجل توجيه ضربتها للحياة الديمقراطية فيها.

أثبت الإسلاميون في فترات الانتقال الديمقراطي حالة من البراغماتية السياسية التي كانت تأمل أن تجر عليها مكاسب تكتيكية دون النظر إلى تأثيرات تلك البراغماتية السياسية في خدمة استراتيجياتها

رابعاً- الإسلاميون: بالإمكان إضافة هذا العامل إلى جانب العوامل المهمة في عمليات التحول الديمقراطي، استناداً إلى أهميته وخصوصيته في المشهد السياسي التونسي، وقد يفيد دراسة هذا العامل في الدراسات الإقليمية لعمليات التحول الديمقراطي في المنطقة العربية والإسلامية، فعملية تهميش هذا العامل في الدراسات الديمقراطية الإقليمية  لفقر التجربة العربية البحثية في التركيز على هذا الجانب وعدم التطرق البحثي له، حيث أثبت الإسلاميون في فترات الانتقال الديمقراطي حالة من البراغماتية السياسية التي كانت تأمل أن تجر عليها مكاسب تكتيكية دون النظر إلى تأثيرات تلك البراغماتية السياسية في خدمة استراتيجياتها، وأدت لخسارتها لجزء كبير من شعبيتها في الشارع التونسي بسبب السياحة الحزبية بين أفراد جزء كبير من تلك التنظيمات.

تركيز تلك النخب على عبور التحديات المرحلية عبر عمليات السياحة الحزبية والتحالفات البراغماتية أدى لغياب منجز سياسي حقيقي لها، وهذا بحد ذاته شجع قوى الثورات المضادة لمحاولة الإجهاز على حضور الحركات الإسلامية في المجال العام التونسي بخاصة حزب النهضة في إطار حرصها على إفشال حضور الإسلام السياسي في المجال العام العربي عموماً، واستغلت في سبيل ذلك النزعة الانقلابية لدى قيس السعيد لتصفية حركة النهضة سياسياً.

يعد ما حصل مؤخراً في تونس مقياساً لحالة الإحباط الشعبي من الحياة السياسية، ففي ظل غياب ثقافة شعبية سياسية، ورغبة لدى الجماهير في الانخراط في العمل السياسي، وتحول المشاعر السلبية لدى الجماهير من الأحزاب، لترحيب جماهيري شعبوي بإجراءات قيس السعيد الانقلابية، وفقدان الجماهير للحماسة التي تميز الجماهير في الديمقراطيات الناشئة من أجل حل المشكلات السياسية الداخلية الطارئة بالطرق الديمقراطية، لا يمكن عد الانقلاب الدستوري التونسي أزمة تفضي لتسويات داخلية، وإنما قد يتم الإجهاز على الحياة الديمقراطية بشكل كامل في حال لم يكن هنالك مجال عام، ورغبة لدى الجمهور التونسي للإسهام في تصويب المسار الديمقراطي، حتى لو كانت هنالك توافقات داخلية داخل الأحزاب التونسية، تفضي لتآلفها ضد تلك الإجراءات، إلا أنه في الحالة التونسية الحالية، يلعب الشعب التونسي العامل الأهم من الجيش والتدخل الخارجي والأحزاب في عملية ضبط بوصلة المشهد الانقلابي الأخير نحو المسار الديمقراطي من جديد، فحالة الإنكار الشعبي بأن ما قام به قيس السعيد انقلاب دستوري، قد تعمق ركائز الثورة المضادة بغطاء شعبي، ونجاح أي استرداد للحياة الديمقراطية مستند بشكل كبير على استرداد الشعب التونسي لحماسته من أجل المساهمة فيما يحدث لصالح الحفاظ على المكتسبات الديمقراطية.