بين شتات البرجوازية في المهجر وتشكيل الجالية

2023.05.04 | 06:23 دمشق

بين شتات البرجوازية في الشتات وتشكيل الجالية
+A
حجم الخط
-A

يقول مهاجر كنت أشم رائحة المطر في سوريا، أما هنا فلا رائحة للمطر ولا رائحة للأرض ولا الأشجار، إن أمطرت هناك أفرح لأنها ستأتي بخير على البلاد والعباد، أما هنا فالأمطار عرض دائم لا يحمل أثرا في حياة الناس ولا ينعكس في اقتصادهم، حتى الجمال المرسوم بالمسطرة يشعرنا أنا نعيش في لقطة (فوتوشوب) مفروضة نحاول الخروج عنها بالذهاب للغابات البكر التي تتوزع بها الغابات عشوائيا، البيروقراطية في زيارة الطبيب وعدم القدرة على مرافقة المريض بمشفى، حتى الموت يبدو بيروقراطيا ما لم يأتك فجأة في جلطة أو حادث سير، ومع انعدام القدرة على تأبين ميت وإقامة عزاء تقليدي له تحول الأحياء لأرقام والأموات كذلك، ويقول آخر "أنا بحاجة لأعرف الشمال والجنوب، وتَوزُّعَ المدن في هذي البلاد الواسعة بين شرق وغرب وجنوب وشمال كما حفظتها في سوريا، لا بركة في بلاد لا تعرف فيها الجهات وتجهل أين يمكن أن تدفن"، ولست أدري أنا كاتب هذه السطور إن كانت المشكلة في الغربة عن مجتمع جديد، أم عن إيقاع الحياة بعيدا عن أهلها السابقين، قبالة هذا الحديث عن الفقد الذي يمثل مشتركا شرقيا بين جموع المهاجرين إلى الغرب ويلعب دورا في تمثلاتهم الاجتماعية وتحولات الهوية، نجد في الوسط السوري المهاجر في كثير من لقاءات التعارف بينهم؛ ادعاءات كثيرة عن المال والجاه والسلطان الذي خسروه، حتى بات المرء يشعر بضرورة المخالفة والتعريف بنفسه كفقير معدوم أو فلاح بسيط وإن لم يكن كذلك، لذا كان مقالنا السابق "في الحديث عن جالية سورية في المهجر" ومناقشة سرديات كل من ابن البرجوازية الثائر بشكل أكثر شمولا في مقالنا الحالي، وابن الإقطاع القبلي المعارض في مقال لاحق؛ يبدو الحديث عن شتى الأطر الظاهرية التي تجمع السوريين في لقاءاتهم ضروريا لمعرفة مدى تأثير السرديات الأبرز فيما بين هذي الجموع أو مرجعيته لمعرفة آفاق تشكل جالية سورية وتمايزها عن غيرها باعتبارهم ضحايا قضية ثورة وحرية وقد يكونوا سفراء لها.

اقتفاء أثر أبناء تلك "البرجوازية" يشكل مدخلا مهما لإعادة قراءة إمكانات اندماج السوريين فيما بينهم بالمهجر، خصوصا أمام حال استعادتهم لمرجعيات سابقة وتقليدية أو في محاولة توليدها

رغم الخلاف العميق حول حَمَلة رأس المال السوري بأنهم أبناء برجوازية سواء حول صوابية هذا التعريف، أو حول الهوة بين الدور الذي تلعبه البرجوازية اقتصاديا أو سياسيا؛ وبين الشتات الذي عاشته قبل الهجرة بعيدا عن كل ممارسات النظام الديكتاتوري أو بعدها، فإن اقتفاء أثر أبناء تلك "البرجوازية" يشكل مدخلا مهما لإعادة قراءة إمكانات اندماج السوريين فيما بينهم بالمهجر، خصوصا أمام حال استعادتهم لمرجعيات سابقة وتقليدية أو في محاولة توليدها، إذ إنه رغم اختلاف البيئة الجديدة زمانيا ومكانيا في آفاقها ومحيطها ما يعوزها إلى شبكات حوار وتقاطعات وأدوار مختلفة، تظهر شتى الممارسات الظاهرة لدى الجماعات المهاجرة من منبت "رأسمالي" أو "برجوازي" مترفة شكلية مأخوذة بماضيها وتحاول إعادة استيلاده، محاولة تكريس سلطة ودور في غير مكانه ولا بيئته، وقد تستطيع تلك تحريك رأسمالها وبناء استثمارات اقتصادية رغم أنها ما زالت تمثل صورة "رأس المال" الجبان والباحث عن موطن استثمار أثر في موقفها من النظام نفسه، وتمتاز بعقلية استثمارية بحتة، لكنها في الحيز الاجتماعي بين جموع المهاجرين لا تستطيع الخروج من "البريستيج" وعالم المظاهر الذي تعزل عبره نفسها عن محيط مهاجر، أو تحاول الظهور بمظهر فوقي وتتداول مفاهيم من مثل "أرستقراطية، برجوازية، رأسمالية" دون وعي بدورها وبيئتها؛ رغم تلك الغربة التي يعيشها الجميع ورغم المجتمع الأوروبي الذي لا ينظر للمستوى المادي للفرد في مستوى العلاقات الاجتماعية العامة.

ورغم عدم وجود برجوازية حقيقية في بلدان المشرق سواء كانت قارة في بلادها أم مهاجرة، لكن قراءة رؤية بعض نخب رأس المال إلى نفسها كبرجوازية وتأثيثها لتلك المقولة فيما بينها يفيد في تفكيك تلك السرديات ومعرفة مدى تأثيرها، وقد يقول قائل لم الحديث عن برجوازية وإقطاعية في بلد الهجرة؟ والحقيقة أن مناقشة الحالتين في مرحلة هجرتهما أو انتقالهما لبيئة أخرى؛ يعني محاولة تجريد كل منهما من إمكانات الدعم والبراغماتية لمعرفة احتمال تطور أي منهما، ونجاعته للمشاركة في بناء مجتمع ما ولو كان جماعة أو جالية أو مجتمعا موازيا، أو الاضطلاع بدور في المجتمع الأم أو المهاجر، كما أنه في الوقت نفسه قد نتوصل لتفكيك كثير من المرجعيات والرؤى التي لا تحتمل إمكانية تشكيل جماعة بشرية واحدة؛ يمكن أن يجتمع حولها السوريون في إطار هوياتي ثقافي وليس سياسيا، وبالتالي تنقل أولئك الذين يظنون أن تاريخهم القديم وفقا لإحدى التوزيعات الفئوية أو الطبقية يمكن أن تنفع في خلق تجمع ما وقد تجردهم من سرديات وآليات عفا عليها الدهر في المجتمع الجديد ليصحو الأفراد والجماعات من مخيلة لم تعد تنتمي لآفاق المجتمع الجديد وإيقاعه وحركيته المغايرتين.

في مجتمع الهجرة يمكن الجزم بأن البرجوازية لا يمكنها أن تستند إلى تاريخ أو إرث أو حتى مخيال أو سردية تفيد في تمييزها كطبقة

لا يمكن لمجموعة أو فئة أن تشكل طبقة ما لم تعرف نفسها بجملة ميزات وصفات تميزها عن غيرها، وتدخل في تفاعل وصراع اجتماعي، أو تنافس مبني على مصالح خاصة اقتصادية سياسية اجتماعية، أو دور ثقافي؛ إذ في الغالب يكون كل من الدور والفاعلية دالة ومؤشرا أساسيا في التعريف؛ ناهيك عن الهوية والذهنية الخاصة بكل منها.

في مجتمع الهجرة يمكن الجزم بأن البرجوازية لا يمكنها أن تستند إلى تاريخ أو إرث أو حتى مخيال أو سردية تفيد في تمييزها كطبقة لافتقارها لذلك تاريخيا في البلد الأم، فكيف بها وهي صورة لشتات برجوازيات عربية مشوهة في سائر بلدان المشرق، ولا يمكن أن تنجز شيئا في هذا الإطار في المحيط الجديد ولعلنا للإنصاف وبعيدا عن نخبوية البرجوازية وانعزالها أو عدم امتلاكها وعاء تدور تتمركز في فلكه، لا بد أن نتذكر أن لا دور يمكن أن تلعبه أي برجوازية "وطنية" خارج مجتمع ومحيط وأنساق علاقات محددة بمجتمع معين ودولة معينة، ما يحيلنا لضرورة البحث في شتى الأطر القديمة وتفكيكها للوصول إلى معرفة خاصة بإمكانات الجماعة السورية المهاجرة في الالتفاف حول فكرة بناءة أمام معطيات وبيئة جديدة ونمط علاقات يختلف جذريا عن الوطن الأم.