بين المأساة والملهاة

2021.10.27 | 06:43 دمشق

banana2.jpg
+A
حجم الخط
-A

الفقر سيد الشرور، غيابه وحده يجعلنا نسمو بمشاعرنا فوق الأنانية، ووجوده أيضاً قادر على إيقاظ الغرائز البشرية التي تجعلك تعتقد أن عليك أن تستحوذ على مصادر الحياة والاستئثار بها، ولشدة كرم الحياة فقد اختبر السوريون هذا وذاك جيداً.

للسوريين مع الموز حكايات كثيرة لا تشبه الموقف الذي ظهر في الفيديو الأخير بما يحتويه من حزن، أذكر منها الآن موقف المظاهرات في حمص حين بدأ المتظاهرون يستخدمون جملاً مشفرة لتناقل الأخبار الثورية، مرة كانت من المفترض أن تكون نقطة التجمع عند دوار يسمى "دوار الرئيس" لكن الحماصنة اختاروا أن يلقبوه "دوار أبو موزة" من باب السخرية ومن باب التمني أن يحققوا تحقيق ذلك الحلم البعيد، إذ إن هذه الكلمة كانت يستخدمها السوريون لوصف الشيء بعيد المنال، ولطالما كان الموز أحدها.

ثم بعد حين بدؤوا يضحكون من موتهم المستمر فيتناقلون شعارات الثورة بشكل ضاحك ليثبتوا لأنفسهم أمام العالم أنهم لم ينكسروا فحرّفوا شعار "الموت ولا المذلة"، ليصبح "الموز ولا البازيلا"، لقد كانت تلك المرحلة التي باتوا يضحكون فيها من فرط الألم ويبكون من كثرة الضحك على واقع لم يكن على قدر أحلامهم البسيطة.

بعد كثير من الأحداث المؤلمة فقدَ الموت هيبته ووقاره لدى السوريين، وبدؤوا يتعاملون معه على أنه حدث عادي قد يدعو للضحك، وأن بقية الأشياء الدنيوية التي قد يعاني منها المواطنون العاديون في بلادهم مثل الغلاء وانخفاض مستوى التعليم والصحة مثلاً، قد تعدّ بالنسبة إليهم رفاهيات لا يتمكنون من امتلاكها.

فما كان منهم أمام حملات التشويه والعنصرية والسخرية والنبذ التي يتعرضون لها باستمرار إلا أن يحولوا القصص إلى دعابة، وإلا كيف سيتمكنون من مجابهة هذا التنمّر اليومي، وكيف سيتقبلون أن حفنة الأوكسجين التي يسحبونها إلى الرئتين مع كل شهيق، قد تكون حراماً عليهم في نظر شركائهم في الإنسانية.

منذ مشاهدة الفيديو انتابتني مشاعر مختلطة تجاه هذا الكائن الغريب للحقيقة وللوهلة الأولى، فكرت أن أشتري كثيراً من الموز وأجلس لألتهمه في ليلة واحدة انتقاماً من ماضٍ تعيس وحاضر أبدع في إيذائنا، ثم تراجعت في اليوم التالي وأنا أشاهده يرمقني بطرف عينه، تجاهلت نظراته ونداءاته المستمرة وعدت أدراجي.

هل تصبح الفاكهة متحكمة في تصرفاتنا إلى هذا الحد؟ وهل من الممكن أن تعيد حبات من الفاكهة كتابة تاريخ بلاد بكاملها وأن تصبح رمزاً لحصارها الاقتصادي والسياسي في حقبة من الزمن.

لطالما كان أكل الموز سلوكاً طبقياً في سوريا في ثمانينيات القرن المنصرم وتسعينياته ثم عقد معه السوريون صلحاً "سياسياً واقتصادياً" بعد فترة وحاولوا جاهدين طرد تلك الحقبة وما فيها من ذاكرتهم، لكن حالة الصلح بدأت بالتلاشي بعد أن أصبح فعل خيانة، لا بسبب السيدة التي استكثرت على بطوننا الفارغة أن تأكله فحسب، بل لأن الحياة وفق ما يبدو أصبحت كثيرة على أمثالنا، حتى أصبح شكل غذائنا ونوعه محط تداول وقابلية للنقاش.

لا تعرف تلك السيدة أن للسوريين مع الفقر حكايات وذكريات كثيرة، وأن كثيراً من أبناء جلدتنا اليوم يعيشون حرماناً مضاعفاً، لا من أنواع الفاكهة ذات الثمن المرتفع أو الرخيصة منها فقط، وإنما يفتقدون حفنات قليلة من الغذاء الأساسي ومن الدفء، بل ومن أدنى مقومات الحياة الطبيعية، وأن العالم الذي ظلمها بأن حرمها وأسرتها من التمتع بحياة كريمة، حرمنا حق الحياة فاضطررنا جميعاً للبحث عنها في أقاصي الأرض.

لوهلة تستوقفنا تلك المواقف الموغلة في الإيلام لنقف على حافة الدهشة من ناحية والعجز وقلة الحيلة من ناحية أخرى، ما زال العالم يضع مخرزه في عيوننا يومياً، ثم انتقلت الحالة من تجاوز إيذاء الحكومات إلى إيذاء الشعوب بنفسها، الشعوب التي لا يمكن لأحد إلا أن يستغرب عداء بعضٍ منها لبعضه الآخر.

هل علينا أن نبكي بحرقة من حكاية الموز الجديدة لأن العالم بات ينظر إلى ما تضعه في أفواهنا لنسد رمق جوعنا الفيزيائي وحسرتنا النفسية؟ وهل إلى هذه الدرجة أصبحنا ثقيلين على هذه الأرض فلم يعد من حقنا أن نفكر بالطعام مثلاً؟

الغريب أن كثيراً من السوريين الذين ذلّهم الطعام والتهجير والقتل المستمر نظروا إلى من حاسبَهم عليه بتعاطف، ذلك أننا شركاء في الهم والفقر والعوَز مهما اختلفت جنسياتنا.

وعلى الرغم من أن الموقف برمّته أثار فينا من الحزن والسخرية كثيراً، وفتح جراحاً قديمة في الذاكرة كنا قد اعتقدنا أنها انتهت أو أننا استطعنا التصالح معها، لكن ذلك يضيء على نقطة غاية في الأهمية، إذ إن الصوت القادم من الجيل الجديد لا يبدو أنه راضخ أو مُستضعَف، لقد أصبحوا يعلمون مغبّة الصمت وبدؤوا يستطيعون المحاججة والدفاع عن حقوقهم فلا يصمتون على متعدٍ ولا يسمحون بإهانتهم وإذا كان في ذلك فضل فهو ليس إلا للثورة السورية.