بين التسلطية والاستهزاء

2021.01.19 | 00:09 دمشق

_116556129_458bdcf2-e3c1-4143-88a6-2335bc112100.jpg
+A
حجم الخط
-A

تعرض المعارض الروسي اليكسي نافالني في شهر آب من العام المنصرم أثناء زيارة انتخابية إلى سيبيريا إلى محاولة اغتيال بجرعة من سم "نوفيتشوك"، والذي كشفت التحقيقات التي أجرتها برلين حيث نقل إليها للمعالجة، اعتماداً على تحليلات من مخابر سويدية وفرنسية وألمانية، بأنه مصنّع حصرياً في مخابر الأجهزة الأمنية الروسية. دخل بعدها المعارض الروسي الأشهر للرئيس فلاديمير بوتين منذ 2011، في غيبوبة دامت ثلاثة أسابيع في مشفى لا شاريتيه في برلين قبل أن يتمكن الأطباء من إنقاذ حياته وليبقوه قيد المعالجة والمراقبة الصحية لمدة خمسة أشهر.

نافالني اشتهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتي من خلالها شكل عبئاً على نظام الكرملين لعمق وتواتر الأخبار الموثّقة والتي تقاسمها مع متابعيه حول فساد حكام الكرملين على أكثر من صعيد. وبعد شفائه الجزئي، قرر العودة إلى موسكو مع معرفته الحثيثة بأن الاعتقال ينتظره وحيث لا يمكن توقع سوى هذا المصير من نظام يعتمد الترهيب والترغيب في إدارته لأمور البلاد، وحيث سقط عديدون من معارضيه ومن الصحفيين ضحايا قمعه. ولم يستطع ناصحوه بالبقاء في الغرب أن يصلوا إلى إقناعه لأنه اعتبر بأن كل معارض اختار البقاء خارج روسيا سيطويه النسيان مهما سلطت عليه الأضواء في بداية فترة لجوئه.

إضافة إلى قمعها الدائم لمعارضيها تتمتع السلطات الروسية، وبوتين على رأسها، بنوع من السخرية في كل مرة يرد فيها موضوع نافالني

وكان سيناريو الاعتقال علنيا من قبل موسكو حيث أعلنت بأنها ستعتقله فور وصوله إلى الأراضي الروسية. وقد حملته الرحلة التي نقلته إلى موسكو كراكب عادي على أن تحط في مطار العاصمة الروسية الرئيسي، والذي احتشد فيه مناصروه كما أعلنت وسائل الإعلام الدولية. ولتفادي هذا الاستقبال المُعدّ، تم تحويل مسار الطائرة إلى مطار آخر في العاصمة بحجة انشغال المدرج ببقايا كاسحة جليد. وبالتالي، فقد سجل أهل السلطة "نصراً" سخيفاً بأن أبعدوا نسبياً عدسات المصورين عن توثيق هذه المسرحية العبيثة. وقد جرى اعتقاله بناء على مذكرة قضائية لتغيبه عن تلبية استدعاء من قسم الشرطة في الشهر الماضي بسبب خضوعه للعلاج خارج البلاد بمعرفة السلطات ذاتها.

إضافة إلى قمعها الدائم لمعارضيها تتمتع السلطات الروسية، وبوتين على رأسها، بنوع من السخرية في كل مرة يرد فيها موضوع نافالني. ففي مؤتمره الصحفي السنوي نهاية العام الماضي، وفي تعليق له على سؤال طرح عليه بخصوص قضية تسميم المعارض الروسي، الذي يتحاشى المسؤولون الروس ذكر اسمه حتى، أجاب بوتين بابتسامته الباردة المعهودة بأنه "لو كانت فعلا موسكو من وضع السم لهذا الذي تذكرون، لكان اليوم من بين الأموات حتماً".

لم تتأخر الدوائر الدبلوماسية الأوروبية عن التعبير بأقسى العبارات عن إدانتها لهذا الاعتقال التعسفي كما عبر موظفون كبار في فريق الرئيس الأميركي المقبل بعد أيام إلى البيت الأبيض عن غضبهم ودعوتهم إلى فتح تحقيق شفاف للكشف عن مرتكبي جريمة التسميم.

يعتمد الروس على عامل الوقت الذي سمح لهم بالتأكد من أن الأداء السياسي الغربي يتميّز بالحماس لقضية لفترة زمنية محدودة سرعان ما ينتقل بعدها هذا الحماس إلى قضية أخرى وهكذا دواليك

وكعادته في أكثر من قضية داخلية وخارجية، يهزأ الكرملين بكل الغضب الدولي كما بكل التهديدات التي تصدر عن مسؤولين غربيين تتطرق إلى عقوبات فعلية أو محتملة تواجهه لانتهاكاته المستمرة. فقد ضم الروس سنة 2014 جزيرة القرم الأوكرانية إلى أراضيهم ضاربين بعرض الحائط كل القوانين الدولية وكما دعموا، وما زالوا، قوات انفصالية في شرق أوكرانيا سعياً إلى تقسيم جارتهم الضعيفة والقلقة. هذا الاستهزاء المنهجي يُشير بجلاء إلى حسن معرفة القيادة الروسية بطبيعة اتخاذ القرارات السياسية المشتركة في الاتحاد الأوروبي، كما إلى نزوع إدارة الرئيس الأميركي الخارج من البيت الأبيض دونالد ترامب إلى ترك الروس وشأنهم في كل الملفات، كما إلى حلف مستتر مع تل أبيب يسمح لها من جهة بفرض أجندتها الحربية كما السياسية في محيطها وخصوصا في سوريا التي تقع تحت الإشراف الروسي الذي ينسق معها كل ضرباتها الجوية هناك، ومن جهة أخرى، يدفع الليكود وحلفاؤه في الغرب، إلى الوقوف إلى جانب موسكو في مواجهة كل خطوات الضغط السياسي كما العقوبات الاقتصادية.

وقبل هذا وذاك، يعتمد الروس على عامل الوقت الذي سمح لهم بالتأكد من أن الأداء السياسي الغربي يتميّز بالحماس لقضية لفترة زمنية محدودة سرعان ما ينتقل بعدها هذا الحماس إلى قضية أخرى وهكذا دواليك. ولا تؤثر العقوبات الاقتصادية، على محدوديتها، إلا على عموم الناس وليس على رأس الهرم. والقاعدة في الدول التسلطية تؤكد بأنه حين تزداد الدولة فقراً يزداد النظام ثراءً. فالمجموعة المهيمنة على الاقتصاد الروسي لا تشعر بأي تهديد، كما هو أيضاً حال مثيلاتها في طهران وفي دمشق، من العقوبات الاقتصادية لأنها طورت شبكات اقتصادية موازية تعتمد على التهريب والسوق الموازية.

بعد أسابيع وربما أشهر، وفي ضوء انشغال العالم بالأزمة الصحية الجارفة، لن يتذكر أحد ألكسندر نافالني إلا انتقائياً. وسيتابع بوتين إدارته للمشهد الداخلي الروسي بطغيان يحظى بشعبية بعض الأوساط القومية والتي تشعر بأنه الوحيد القادر على الثأر لروسيا ممن حاول إضعافها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وسيستمر السياسيون الروس بالاستهزاء من الغرب حيث علّق المتحدث باسم الكرملين على سؤال مرتبط باعتقال نافالني قائلاً: "أستميحكم عذراً، هل تم اعتقاله في ألمانيا؟ لم أُبلغ بذلك".