بين الاعتدال والتطرّف: عوامل تفكك المجتمع السوري

2021.04.01 | 07:14 دمشق

2019-02-22t165332z_861527559_rc1943e28860_rtrmadp_3_mideast-crisis-islamicstate_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

تناولت دراسات وبحوث كثيرة، العوامل الرئيسة التي تدفع الأشخاص إلى الانخراط في العنف والتطرّف. وكانت أغلبها تشير إلى عامل أساسي، وهو المجتمع، الذي ينتج أفراداً وجماعات؛ إما معتدلة، أو على نقيض ذلك. ولقد كان للتطرّف جذور ضاربة عبر التاريخ، لكننا بصدد تسليط الضوء على المجتمعات المعاصرة، وخاصةً المجتمع السوري، وذلك بعد عام 2011، عندما تحوّلت الثورة السورية السلمية إلى حرب، أرادها النظام وحلفاؤه، لكسر إرادة كل من يتجرّأ ويقول "لا" للاستبداد، ويطالب بأبسط حقوقه الإنسانية.

في سوريا، لعبت أفاعيل نظام عائلة الأسد دوراً مركزياً في طمس معالم المجتمع، وتغييب النخبة التي كان بإمكانها النهوض بالأجيال نحو مستقبل متطور – اقتصادياً وعلمياً وفكرياً؛ ومن هنا بدأ المجتمع السوري بالتقهقر، وتحوّلت همومه الأساسية إلى البحث عن معيشة بسيطة، تكفل للناس الاستمرار بالحياة، دون الخوض في شؤون "الدولة"، والنأي بالنفس عن الأسئلة المحرّمة حول ثروات البلد والحريات والتغيير السياسي.

الأسرة والمجتمع في الحرب السورية

غالباً ما تتكون شخصية الفرد من خلال الاكتساب (التجربة)، ضمن أسرته. فإن عاش الفرد في ظل التعاسة والتعنيف والحرمان والتمييز، ستكون النتائج حتماً سلبية، ويكون الشخص مجهزاً للانخراط في دوامة عنفية، تؤثر على أفكاره وتنمّي لديه الكراهية، أو حتى يصبح ذا سلوك عدواني في محيطه. ونحن شاهدنا حجم الدمار المادي والنفسي الذي تعرض له المجتمع السوري، وخاصةً جيل الأطفال. وعوامل هذه الحرب، أدت إلى جنوح الكثير من الجماعات نحو العنف، وفي بعض الأحايين كان التطرّف هو المستنقع الأخير الذي انجرفوا إليه.

عشر سنوات من الحرب والتقتيل والتهجير، علاوة على الاقتصاد السوري المنهار، والرغبة بالخلاص من الواقع المرير، كانت كفيلة بإنتاج جيل "مشوّه" من الداخل.. وهذه ليست شتيمة، بل إنها مسألة ارتباط عضوي بين الحرب والمجتمع. حيث تكون هناك علاقة طردية بين حجم الكارثة والجريمة التي تقع على الأفراد والجماعات، وبين الذهاب نحو العنف والتطرّف!

هنالك جيل كامل من الأطفال والمراهقين تم سحقه، على كل الأصعدة؛ هذا ما عمد إليه النظام السوري وحلفاؤه، لتمزيق المجتمع السوري! فإن نظرنا إلى إحصائيات الأمم المتحدة، بحسب "اليونيسيف"، فقط بما يخص التعليم، سوف نجد أن "أكثر من 2.4 مليون طفل خارج المدارس، منهم 40 في المئة تقريباً من الفتيات. وقد ارتفع هذا العدد، خلال عام 2020 بسبب انتشار جائحة "كورونا".

طبعاً، مع انعدام التعليم في المجتمع، وتفشي الجهل والفقر، وتواري الرقابة وعناية الأهل، الذين هم ضحايا أيضاً، ينتهي الأمر بهؤلاء الأطفال والمراهقين في الداخل السوري إلى الضياع، أو الانتماء لتنظيمات متطرفة، أو فصائل عسكرية تتقاتل، وتتبنى أيديولوجيات تكون بديلة عن الحوار، وتفرض نفسها في غياب الوعي وازدياد التنافس على السلطة. وينطبق هذا الأمر بالتأكيد على شريحة في الجانب الآخر من المعادلة؛ "السوريون الذين قرروا الاصطفاف مع الطاغية  الأسد."

إن للثقافة أيضاً، عوامل في التنشئة. فقراءة الكتب والمراجع الدينية، وغيرها، التي تحتوي على أفكار تنبذ الآخر، وتخالف رأيه، تولّد آراء ومشاعر عدائية، وتؤدي إلى انصهار الأفراد أو الجماعات في بوتقة واحدة، يكون مصبّها داخل مجتمع مغاير، مما يسهم في خلق مشكلات وردود أفعال عنفية.

البروباغندا والتجهيل في زمن الحرب السورية

لم يكن هناك عقد اجتماعي بين "السلطة السورية" والمجتمع، مطلقاً. إذ لم نشعر نحن السوريين يوماً ما بأننا نعيش ضمن دولة مؤسسات، ونحصل على كل حقوقنا الشرعية. إنما قد فرض علينا ما أرادته القوى الكبرى: أن نكون تحت حكم استبدادي، كحال الدول التي تحكمها أنظمة دكتاتورية في الشرق الأدنى وقارة إفريقيا! وعليه، كانت الحياة بالنسبة للمواطن السوري "ممتهنة" وخاضعة لسلطة الأمر الواقع والتجهيل وقبضة السجّان. ولم نرَ  في  أي  مرحلة  من  حكم الأسدين (الأب والوريث) تبلور ملامح نظرية "الحاكم والمحكوم" في أصول العقد الاجتماعي، - أي منح المواطن حقوقه كاملةً من قبل الحكومة، والتزاماته وواجباته تجاه حكومته "سياسياً واجتماعياً". وهذه الأمور من المستحيل أن تحصل في سوريا، والوطن العربي والإسلامي، ليس لأن الشعوب لا تلتزم أخلاقياً بمواقفها، وتطمح للتطور والذهاب إلى مجتمع راقٍ وواعٍ، إنما الأنظمة الوضعية والوظيفية وجِدت كي تغيّبَ هذه المطامح والمفاهيم والأفعال، وتبتر أي حركة إصلاح وحريات منشودة.

عمد النظام السوري بشقيه، "القديم والحالي"، إلى ترويج مفاهيم كاذبة، وممجوجة، تدعو إلى الحريات وتحرير الأراضي المحتلة، منها فلسطين. كما دسّ السمَ في العسل، للأجيال الصاعدة؛ تمثل ذلك في إقصاء كل فكر حر، وتنميطه مع شعارات "حزب البعث". والمكيدة المضحكة، أن شعارات البعث تدعو إلى الحرية والاشتراكية، لكنها فقط فقاعات صابون، أو حبر على ورق كما يقال!

أما بعد انطلاق الثورة السورية في عام 2011، نكص النظام على عقبيه، وبصق ادعاءاته عن الحريات التي كان يتغنّى فيها أمام العالم العربي والغربي، وأظهر أنيابه التي جلاها في أجساد السوريين، مدعياً أن هنالك متطرفين وجماعات تكفيرية في الحراك الشعبي، ليصار بعد فترة وجيزة أغلب الشعب السوري المنتفض هم من الإرهابيين، والتكفيريين، وعملاء لدول غربية وللصهيونية!

ولا ننسى طبعاً الخطاب الإعلامي التابع لنظام الأسد، وبعض من القنوات العربية والغربية، التي تشدّ بمئزر الطاغية الرخو، وتسانده في حربه الإعلامية السخيفة! حيث ابتكرت قنوات النظام خطاباً موحّداً، ينص على ما تقرره غرف المخابرات، ورجالات النظام الكبار"عسكريين أو أمنيين". وعلى سبيل المثال: حينما قصف النظام السوري الغوطة الشرقية بالكيماوي في 21 من آب 2013، مخلفاً مئات الضحايا من الأطفال والنساء، خرجت "بثينة شعبان" في مقابلة على "سكاي نيوز"، بكل وقاحة، تستغبي العالم والسوريين، قائلة: " إن ضحايا الكيماوي هم أطفال ونساء ورجال، خطفهم المسلحون (تقصد المعارضة) من اللاذقية، وأحضروهم إلى الغوطة حيث وضعوهم في مكان واحد، واستخدموا ضدهم السلاح الكيماوي!!".

كل هذا العنف، والخطاب الكاذب من قبل النظام وحلفائه، وما يتجلّى حقيقياً على الأرض أمام السوريين، كان عاملاً ومحرضاً لذهاب شرائح إلى التطرف، وحمل السلاح، وتبني أفكار وأيديولوجيات لم تكن في قاموس ونواميس المجتمع السوري أبداً. وقد يقول البعض، إن هنالك حركات ظهرت في حقبة السبعينيات و الثمانينيات، حاربت نظام البعث، واغتالت ضباطاً، وشخصيات سياسية بارزة، وانتهجت طريق المقاومة بالسلاح، مثل تنظيم "الطليعة المقاتلة" المستقلة عن الإخوان المسلمين، والتي أسسها "مروان حديد"، نعم، هنا سوف ندور في حلقة مفرغة! فلولا عنف أزلام البعث، ونظام الأسد لاحقاً وإجرامه، لما كان هناك أي ردّ فعل مسلح ودموي. فالعنف يجلب عنفاً.  ونتيجة طلب التغيير وحوادث عنفية استهدفت أفراداً، قام بها الإخوان المسلمون، وهم لا يمثلون الشعب السوري، قام حافظ الأسد وشقيقه رفعت بإبادة مدينة حماة في شباط من عام 1982، حيث دكها بالمدفعية والصواريخ، وراح ضحية ذلك 40 ألف مدني وبضع عشرات من مقاتلي الإخوان المسلمين! ولما يزل هذا النظام ينكر هذه الجريمة التاريخية، ويجعل من نفسه محرراً لمدينة حماة من التنظيمات المتشددة!  وينسب بعض أسبابها للمسلحين آنذاك، ولأخطاء ضباط، أغلبهم قد مات، ومنهم خارج سوريا.

إذن؛ البروباغندا ذاتها، لم تتغير عند النظام وحلفائه، ونضيف عاملاً مهماً أيضاً، وهو الخطاب الإعلامي الغربي، والترويج بشكل مبطّن ومخفٍ للتنظيمات الإرهابية، ومنها "تنظيم الدولة الإسلامية – داعش"، أي أنهم ركّزوا في موجة واحدة على شيطنة الإسلام، وتجاهلوا إرهاب النظام والميليشيات الطائفية الإيرانية في سورية. وما انفكّت القنوات العربية والعالمية تغطي أخبار هذه التنظيمات على مدى 24 ساعة، كمادة دسمة للمتلقي، لرسم صورة ذهنية عنده: بأن الإرهاب والتطرف منتشر الآن، ونحن نحاربه. علاوة على ذلك، قامت إدارة  اليوتيوب، بحذف قسم كبير من مجازر الأسد، والإبقاء على فيديوهات جرائم الفصائل والتنظيمات المتشددة موجودة على "الإنترنت"!! وبعلم النفس، يعرف المتخصصون، أن تأثير الإعلام على الجماهير وخاصةً إذا كان موجّهاً يكون له سطوة على الأدمغة والسلوك؛ كذلك عملت مراكز الأبحاث والإحصاء على دراسة سلوك المجتمعات، وبالأخص العربية والإسلامية، لتقوم حكوماتها "أي المراكز" بالتعامل وفق هذه الأبحاث والدراسات، بما يتماشى مع مصالحها الإستراتيجية!

 نهايةً.. نحتاج إلى دراسات وأبحاث كبيرة، وشاملة، لتحليل العنف والتطرّف وتفكك المجتمعات بشكل أوسع. فالمجتمع السوري يعتبر حالة انتقائية من مجتمعات أخرى، أثرّت تجاربها بالضرورة على بعض سلوكيات وأفكار الأفراد والجماعات في سورية، مثل القضية الفلسطينية وحرب العراق، والربيع العربي، الذي تمخّضت عنه الثورة السورية.